في الثاني من مايو 2017، أمسك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسيف سعودي، ولوح به داخل عاصمة المملكة العربية السعودية، معبراً عن سعادته بأداء رقصة توارثها سكان هذه البلاد، شاركه في أدائها الملك سلمان بن عبد العزيز.
على صوت الدفوف والطبول التي كانت تقرع بشكل قوي، كان ترامب يتمايل طرباً؛ فهذه البلاد التي تغفو على كنز من البترول استقبلته بفرح عارم، وأمل يحدو قيادتها بأن تتكلل هذه الزيارة التاريخية بتحقيق طموح الرياض التي تسعى كثيراً لكسب ودّ أمريكي أكبر.
ذلك اليوم لم يكن عادياً؛ هو استثنائي للسعودية، التي جعلت من استقبال رئيس أقوى دولة في العالم مهرجاناً كبيراً، وهو يوم استثنائي أيضاً بالنسبة للرئيس الأمريكي، الذي كشفت أفعاله لاحقاً أن زيارته تلك أكثر من استثنائية.
تلك الأهمية التي توضحت فيما بعد، أجابت عن علامات الاستفهام والاستغراب الكبيرة والكثيرة التي أطلقها مراقبون حول اختيار ترامب السعودية كأول بلد خارجي يزوره بعد تسلمه منصبه.
فرحُ السعوديين العارم بالزيارة غير التقليدية كانت واضحة جداً؛ لقد مُلئت شوارع العاصمة السعودية وساحاتها وحدائقها بالأعلام الأمريكية إلى جانب أعلام البلد، مثلما مُلئت بصور الضيف الكبير، إلى جانب الملك سلمان، وبين الصورتين شعار “العزم يجمعنا”.
العروض الضوئية كانت حاضرة في شوارع العاصمة برفقة موسيقى معبرة، تستعرض صور معالم أمريكية وسعودية، ولم تخل هذه العروض من صور لزعيمي البلدين.
الإعلام السعودي انشغل كثيراً بهذا الحدث آنذاك؛ حيث كانت وسائل الإعلام تركز على عمق العلاقة بين البلدين التي بدأت رسمياً على متن طراد في العام 1945، وأهمية تعزيزها.
الملك سلمان، وفي دليل على أهمية الضيف ومكانته، قلده أعلى وأغلى وسام مدني في المملكة، وهو وسام الملك عبد العزيز الذهبي.
وقال العاهل السعودي في تغريدة له على حسابه الشخصي في منصة “تويتر” مرحّباً بنظيره الأمريكي: “نرحب بكم في المملكة، وستعزز زيارتكم تعاوننا الاستراتيجي، وستحقق الأمن والاستقرار للمنطقة والعالم”. وكتب ترامب في حينها، على حسابه في “تويتر”، قائلاً: “أنا سعيد لوجودي في الرياض وأتطلع للقاءاتي اليوم”.
كان ترامب صريحاً وواضحاً، فاللقاء انتهى إلى التوقيع على مشاريع تتقاضى من خلالها واشنطن مئات ملايين الدولارات، وهو ما كان يطمح إليه الرئيس الأمريكي.
وفي حين حصد السعوديون “نشوة” روحية محسوسة من زيارة رئيس أعظم دولة في العالم، حصد الأخير مكاسب مادية ملموسة، وراح يصرخ فرحاً أمام شعبه كمن حقق نصراً عظيماً، وهو يقول: “إحضار مئات مليارات الدولارات من الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة يعني وظائف، وظائف، وظائف”.
– ترامب والبقرة الحلوب!
في زيارة ترامب، التي رقص فيها بالسيف السعودي، ونال وساماً رفيعاً، بلغت قيمة الصفقات التي وقعها في الرياض 460 مليار دولار.
لكن هذا الرقم الضخم، الذي لم يتحقق لأي من أسلاف ترامب ممن حكموا الولايات المتحدة، لم يلبِّ طموح هذا الرئيس الحامل لعقلية تجارية تتعامل وفق مبدأ المنفعة والربح.
فالرئيس الأمريكي يرى في السعودية ثروة كبيرة، ويجب ألا تنتفع بها وحدها دون أن تكون لواشنطن حصة منها؛ فهذه- بحسب قوله ونظرته التجارية، وهو المعروف بدهائه التجاري وخبرته المتراكمة في السوق- “البقرة الحلوب“، التي يفيض ضرعها لبناً دسماً، مثلما وصفها في أثناء حملته الانتخابية.
لذلك، شن ترامب فيما بعد حملات إعلامية على الرياض، وبدأ يبتزها ملوحاً بالقوة، وعدم التعاون معها في مجالات عسكرية، ليعلن في أكثر من مرة أن السعودية بلد غني وعليها أن تدفع المال لبلاده.
السعودية أعلنت أنها دفعت لواشنطن مبالغ من المال، بعد الإعلان عن مشاريع الـ”460″ مليار دولار، منها 100 مليون دولار؛ بحجة تقديم الدعم للقوات الأمريكية في سوريا، ثم كشفت صحيفة واشنطن بوست أن الملك سلمان طلب مساعدة ترامب في حملة عسكرية سرية، فطلب الأخير 4 مليارات دولار نظيراً لها.
– من الرقص بالسيف إلى التهديد به!
نحو عام ونصف من الوقت مضى على قصة السيف السعودي، الذي حمله الرئيس الأمريكي ملوحاً به في تعبير عن فرح ومشاركة منه في أداء رقصة شعبية، ليتحول الرقص والعناق وتشابك الأيادي الصديقة المنتشية بفرح اللقاء، إلى رفع السيف بصيغة التهديد والوعيد بعقوبات صارمة.
شتان ما بين الحالتين! فلم يمض من الوقت كثيراً بين فرح وعناق وبين غضب وتهديد، بطلهما الرئيس الأمريكي، الذي ابتهجت به المملكة في مهرجان فرح عارم، ليحوّل بموقفه الأخير الفرح إلى صدمة غير متوقعة.
ففي 13 من أكتوبر الجاري صعَّد دونالد ترامب من لهجته في الحديث عن قضية اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي، بعد دخوله مقرّ قنصلية بلاده بإسطنبول، في 2 من أكتوبر 2018.
ترامب قال في مقابلة مع “سي.بي.إس” إنه “سيكون هناك عقاب شديد للسعودية إذا كان خاشقجي قُتل في قنصليَّتها بتركيا”.
ووصف القتل المحتمل لخاشقجي بأنه “مروع ومثير للاشمئزاز، وقد تكون له تبعات شديدة، خصوصاً أنه صحفي”.
ورداً على سؤال حول ما إذا كان ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أمر بقتله، قال ترامب: “لا أحد يعرف حتى الآن، على الأرجح سنعرف ذلك، الأمر يخضع للتحقيق وبجدية، وسنغضب بشدة إذا ثبت ذلك. حتى اللحظة هم ينفون ذلك، وقد يكونون فعلوها”.
ترامب، وحين أعادت الصحفية السؤال عن طبيعة العقوبات المطروحة الآن، قال: “هناك الكثير على المحك الآن، هناك الكثير على المحك، لأن هذا الشخص كان مراسلاً، وقد تفاجئين بقولي إن الأمر فظيع ومقزز. إذا كان الأمر كذلك فسنرى ونصل إلى معرفة ما جرى، وستكون هناك عقوبات قاسية”.
الرئيس الأمريكي قال إن مستشاره وصهره، جاريد كوشنير، تواصل خلال الأيام الماضية مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وإن الأخير نفى أي صلة لبلاده بمقتل خاشقجي، ولكنه أوضح أن احتمال تورط السعوديين في قتل جمال يبقى قائماً رغم نفيهم بشدة لأي احتمال من ذلك القبيل.
وفي حال سار الأمر على عكس ما تشتهي سفن الرياض، وتكشفت الحقيقة عن ضلوعها بقضية “خاشقجي”، فإن ما أنفقته من مليارات طائلة لكسب ودّ الرئيس ترامب، ذهبت سدى، وإن الأخير ذبح آمالها في صناعة علاقات متينة موثوقة مع واشنطن تمنحها القوة.
وقبل قضية خاشقجي طالب ترامب، الملك السعودي بدفع ثمن الحماية، وقال: إنه “لولا الولايات المتحدة لما استطعت حماية طائراتك”.