يمكن تحليل زيارة ترامب لبلاد العرب على أكثر من مستوى. المستوى الاستعراضي ـ الشكلي كان مشغولاً بعناية (بعناية فوضى رقصة العرضة في الجنادريّة). أراد آل سعود وصحبهم في مجلس التعاون الخليجي أن يبهروه بالفخامة (المبتذلة والمُفرطة، على طريقة الفخامة «الجماليّة» لدبي أو لاس فيغاس — مصدر إلهام المدينة الأولى) والفقاعة الاحتفاليّة.
الاحتفال بترامب كان أقرب إلى التقديس والتبجيل منه من الاحتفاء الرسمي البروتوكولي (بساطة استقبال ترامب في دولة العدوّ كانت من أجل التوكيد أن إسرائيل لا تحتاج إلى همروجة وإنفاق الأموال لشراء صداقة أميركا). وآل سعود استفاقوا من صدمة فوز ترامب. فالرجل كان على مرّ العقود يسخر من حكّام الخليج، ويقرّعهم دوماً، وظلّ طيلة أشهر حملته الانتخابيّة يطالبهم بدفع ثمن حماية أميركا لهم. حكام الخليج استثمروا في حملة هيلاري كلينتون الانتخابيّة لأن «مؤسّسة كلينتون» الفاسدة كانت تستفيد من عطايا ماليّة سخيّة من حكّام الخليج وشركائهم في «البزنس». وكانت صحافة النفط والغاز تزخر بمقالات هجاء (معظمها للبنانيّين) ضد ترامب، وتصنّفه في خانة الشعبويّين الخطيرين. وفي تلك المرحلة، كانت صحافة الخليج تنسب عداء ترامب لسلالات النفط والغاز إلى عداء مستحكم من قبله ضد الإسلام والمسلمين. لكن كل ذلك تغيّر. فجأة، تغيّرت أوامر الأمير الراعي للصحف العربيّة. توقّف دفق المقالات ضد ترامب، وتبخّرت التحليلات الشعبويّة التي كانت شبه يوميّة. كانت مقالات الترحيب بترامب من عبد الرحمن الراشد إيذاناً بمرحلة جديدة، وعندما يفتي الراشد (الأقرب إلى مصدر القرار) يتبع الباقون على الفور، وبلا سؤال أو جدال.
والصفقات المذكورة ليست مؤكّدة لسبب آخر: هي متأثّرة بعوامل سياسيّة واقتصاديّة. فلو هبط سعر النفط مجدّداً، فإن قدرة المملكة على التسوّق المهول تضمحلّ. والنظام، كما حدث في الشهر الماضي، بحاجة ماسّة إلى تحسين مستوى المعيشة في المملكة، وهذا الإنفاق هو ضروري ليس فقط من أجل الشرعيّة السياسيّة بل من أجل الحفاظ على سلامة النظام. وترامب كان واضحاً في إعلانه أنّ الهدف من هذه الاتفاقيّات (ونشر الإعلام السعودي ١٦ صنفاً منها، وهي كلّها من جهة واحدة، أي أن السعوديّة تعطي، وأميركا تأخذ) هو خلق وظائف عمل للشعب الأميركي. والإعلام السعودي قلّد إعلان ترامب وزعم أنّ الاتفاقيّات ستخلق فرص عمل للشعب في المملكة. لكن كيف سيحدث ذلك؟ إن شركات صنع السلاح موجودة في أميركا ومن المشكوك فيه أن يخلق فتح فرع لمصنع شركة تصنيع «الهليكوبتر» المقاتلة «بلاك هوك»، بقيمة ٦ مليارات دولار، وظائف كثيرة للسعوديّين (وعمالة مصانع السلاح تحتاج إلى مهارة وتدريب غير متوفّرة في المملكة). ومن المرجّح أن يكون المصنع للتجميع فقط، وبأسعار تجني منها الشركة الأميركيّة أرباحاً هائلة. أما شركة «جنرال داينمكس» فلم تعِد – خلافاً للمزاعم الواردة في الإعلام السعودي – إلا كلاماً عامّاً عن فتح فرع محلّي لـ«التصميم والتصنيع والهندسة والدعم للآليّات المقاتلة المصفّحة».
ماذا تريد أميركا من السعوديّة، ماذا تريد السعوديّة من أميركا. تريد الحكومة الأميركيّة من النظام السعودي المال، والمال الكثير: أما الطاعة فهي تنالها من دون كثير عناء. كما أنّ الحكومة الأميركيّة تريد أيضاً أن تتكفّل جيوش «مجلس التعاون الخليجي» بنفقات الدفاع الإقليمي عن الأنظمة، وقتال أعداء أميركا في المنطقة. لكن الأداء العسكري السعودي والإماراتي (المدعّم بتدخّل أميركي وبريطاني) في اليمن لا يطمئِن الراعي الأميركي. أي أنّ الاعتماد الأميركي على جيوش دول الخليج لتولّي المهام الاستعماريّة القتاليّة بالنيابة عن أميركا لن يؤتي ثماره. وهذه الخيبة ستقلّل من ثقة الحكومة الأميركيّة بدول الخليج. وهذه الخيبة قد تؤدّي – على الأقل في ظل هذه الإدارة – إلى تخفيف الوجود العسكري الأميركي في الخليج، إلا فيما يتعلّق بمهام خاصّة فقط بأميركا، لا بحلفائها. والتنسيق بين جيوش الأنظمة الموالية لأميركا ضعيف: فالنظام المصري لا يزال يرفض بالرغم من الإغراءات المشاركة البريّة في حرب اليمن، وقوّات الإمارات تحارب تلك الميلشيات الموالية للسعوديّة.
أما المهمّة الأخرى التي أوكلتها أميركا للحكم السعودي فتتعلّق بنشر الاعتدال ومحاربة التطرّف. ولمس «البلّورة السحريّة» من قبل الحكّام في الرياض كان بهدف افتتاح المركز المعني بمحاربة التطرّف ونشر الاعتدال (مَن ينشر هذا الاعتدال؟ دعاة الوهابيّة؟ أم كبار العلماء في الرياض؟). لكن ليست هذه المرّة الأولى التي تفتتح فيها السعوديّة مراكز لمحاربة الإرهاب. وهي افتتحت في فيينا مركزاً لحوار الأديان. ماذا حلّ به؟ وكيف يجري هذا الحوار الذي رافقه عشاء حميم بين عبدالله بن عبد العزيز وشمعون بيريز في نيويورك؟ وهناك أيضاً مراكز تأهيل الإرهابيّين في السعوديّة، والتي خرّجت أعضاء جدد في المنظمّات الإرهابيّة. وماذا عن الدور الذي أوكلته الحكومة الأميركيّة في عهد أوباما لدولة الإمارات لتولّي أمر محاربة الإرهاب على وسائل التواصل الاجتماعي؟ ما الفارق بين الجهد السعودي والإماراتي؟ ومَن يقرّر إذا كان الجهد الخليجي ناجح أم لا، خصوصاً وأن الكلام الأميركي الرسمي في السرّ عن دور دول الخليج في تدعيم المنظمات الإرهابيّة يتناقض مع الكلام الرسمي العلني؟
الأهم، مهما طالت السنين، أن دول الغرب ستكتشف عاجلاً أم آجلاً أن محاربة التطرّف لا يمكن أن تتحقّق من خلال التعاون مع الأنظمة التي ترعى تلك العقائد والأيديولوجيّات الدينيّة المتطرّفة، ومن دون وقف الحروب والغزوات الغربيّة التي لم تتوقّف منذ الحرب العالميّة الثانية. وترامب الذي جاهر بعدائه للإسلام والمسلمين، اكتشف أنه يتعاطف مع الانشقاق الوهابي في الإسلام. أي أن الوهابية عند ترامب وصحبه هي التيّار المعتدل الوحيد في صف الإسلام والمسلمين. وعليه، فإن على أحفاد محمد بن عبد الوهاب، نشر الاعتدال والتسامح والنسويّة والعلمانيّة في العالم الإسلامي.
لكن دول الخليج تعوّل كثيراً على ترامب. والتعويل على الرئيس الأميركي ليس بجديد. هناك تاريخ طويل من التهليل السعودي للإدارة الأميركيّة الجديدة – لأي إدارة جديدة. ومراجعة التاريخ المعاصر من العلاقات الأميركيّة ــ السعوديّة تظهر أن هناك نمطاً سياقياً في موقف النظام السعودي من أي إدارة أميركيّة: هي تبدأ بالحماسة الكبيرة، وتنتهي دوماً بالخيبة الكبيرة. كان النظام السعودي شديد التأييد لسياسة ريغان، وتشاركا في مكافحة الشيوعيّة حول العالم، لكن النظام السعودي خاب أمله من إمكانيّة قيام إدارة ريغان بشن حرب على إيران لتغيير نظامها. وحتى نظام جورج دبليو بوش: كان الحكم السعودي شديد التأييد لسياسات بوش في البداية، لكنه انزعج من ردّة الفعل الأميركيّة على ١١ أيلول. والسعوديّة ساهمت سرّاً في دعم الغزو الأميركي للعراق، ثم عارضت فيما بعد الاحتلال الأميركي بسبب تنامي النفوذ الإيراني في العراق وانتشار المنظمّات الإرهابيّة في المنطقة (والتي ساهمت هي في إنشائها ورعايتها وتوليدها عبر التاريخ). وفي أوّل إدارة أوباما، كان النظام السعودي يقول إن الرئيس الجديد سيصوّب ما ارتكبه بوش من أخطاء، لكن خيبة النظام كانت كبيرة بعد توقيع الاتفاق النووي. وعليه، يمكن توقّع خيبة سعوديّة قد تأتي في وقت مبكّر.
ومن المرّجح أن تُسجَّل الخيبة السعوديّة من إدارة ترامب مبكّراً. فهي تتوقّع منه الكثير، وتتطلّب منه الكثير. هي تريد منه (مقابل إعلانات الشراء والاستثمار بالمليارات) أن يشنّ حروباً بلا هوادة في اليمن وسوريا ولبنان بالنيابة عن مصالحها. لكن هناك ضوابط ستقيّد حركة ترامب الخارجيّة. فالرجل واقع في مشاكل سياسيّة ودستوريّة وقانونيّة لم يسبق أن واجهها رئيس في هذه الفترة المبكّرة من عهده: وهو منبوذ في بلاده وفي دول العالم، ومُكرَّم فقط في دول الخليج. كما أن جهله بالعمل السياسي والعلاقات بين المؤسّسات أضعف من قدرته على معالجة هذه المشاكل. وخطيئته الكبرى أنه أشعل خلافاً عميقاً مع أجهزة المخابرات: وهي دولة عملاقة ضمن الدولة الأميركيّة. إن حملات الصحف الأميركيّة ضد ترامب تُحرَّك من أجهزة المخابرات. وإقصاء مدير مكتب التحقيقات الفدرالي سيضمن أن ينضم المكتب إلى معسكر أعدائه، مما سيزيد من التسريبات المضرّة له. ترامب سيكون غارِقاً في مشاكله الداخليّة ومنصرفاً عن هموم مستهلكي السلاح في الخليج.
وسياسات ترامب الخارجيّة وحروبه لن تكون على نسق نشر القوّات. لقد شهد ترامب حدود التأثير الأميركي حتى في ظل نشر هائل للقوّات كما في العراق وأفغانستان. وتركيزه على تحقيق وعود السياسة الخارجيّة ستمنعه من الانخراط في حروب ومغامرات محمد بن سلمان. وهنا ستتمثّل الخيبة الكبرى. لن تشن أميركا حرباً على إيران أو اليمن أو لبنان، من أجل تحقيق «رؤية» ابن سلمان. سيكتشف الأخير أن مشاريعه الحربيّة ستكون من نصيبه وحده، بالاشتراك مع شريكه الإماراتي (مع الاستعانة بمرتزقة من دول إسلاميّة كما هو الحال في «عاصفة الحزم»). هذا لا يعني أن أميركا لن تزوّده بالسلاح وأنها لن تدعم حروبه بالمعلومات الاستخباراتيّة والخطب الحماسيّة. والخيبة المتوقّعة هذه ستزيد من اعتماد الحلف السعودي ـ الإماراتي على دولة العدوّ الإسرائيلي. وتبيّن لترامب خلال زيارته مدى التعاون بين دول الخليج وبين دولة العدوّ. وسرّبت الحكومة الأميركيّة قبل أيّام في «نيويورك تايمز» أن دول الخليج «تحت الرادار» تشتري سرّاً تكنولوجيا زراعيّة وطبيّة وأمنيّة من دولة العدوّ عبر عقود تجاريّة من خلال طرف ثالث لحجب هويّة المصدر. والتحالف بين دول الخليج ودولة العدوّ سيثبتُ أنه قد يكون أثمن لهم من تحالفهم مع أميركا.
كلّما كبرت التوقّعات والطموحات كلّما كبرت الخيبات. ودول الخليج ستكتشف أنها عوّلت على رئيس قد يكون ـ إن لم يكن اليوم ــ أضعف رئيس لأميركا بحكم المصاعب الداخليّة التي يواجهها. وترامب يعلم أن نشر القوّات الأميركيّة لصالح دول الخليج سيؤثّر على الاقتصاد الذي يرعاه بعناية فائقة (ليس لديه ما يقدّمه للشعب الأميركي إلا وعود البحبوحة والازدهار). لكن مثلما حدث مع إدارة أوباما، ستتذمّر دول الخليج لكن ليس لديها خيار آخر. وهي مهما تتقرّب من دولة العدوّ فإن الأخيرة تولّي تحالفها مع أميركا على أي تحالف آخر — حتى في ظل رئاسة أوباما نفسه. لكن يمكن لمحمد بن سلمان أن يدعو نتنياهو إلى الرياض ـ والأخير مستعد للزيارة ــ من أجل لمس «البلّورة المُضاءة»، وربما المشاركة في مراسم غسيل الكعبة.