إنه الانقلاب إذاً. محمد بن سلمان، ذو الواحد والثلاثين عاماً، رفض فجر أمس الاول أن يخيّب آمال المتوقعين والمراقبين منذ ما يقرب سنتين، أو أن يتأخر عليهم. الأمير الشاب بات في منصب ولي العهد تراتبية، وملكاً بلا منازع أو منافس عملياً. أطاح انقلاب الفجر آخر العقبات وكبراها أمام طموح الفتى الجامح. أزيح محمد بن نايف من منصب ولي العهد، بقرار متوقع، لم يكن مفاجئاً لأحد في الداخل أو الخارج.
سلة الأوامر الملكية الصادرة عن سلمان بن عبد العزيز خرجت مهملة منها العبارة المعهودة في قرارات مماثلة: «أعفي بناءً على طلبه». لكن، وقبل ميعاد «أخذ البيعة» الذي ضربه سلمان لابنه عقب صلاة التراويح أمس، انتشر فيديو من ثوان لمبايعة محمد بن نايف ابنَ عمه محمد بن سلمان.
قيل إن البيعة أخذت لابن سلمان من ابن نايف في قصر الصفا في مدينة مكة المكرمة. ما لم يكن واضحاً هو وجود الرجلين في كادر صغير غير معتاد، لا يبدو أنه صالون لقاء رسمي. وقف ابن سلمان، ولي العهد الأصغر في تاريخ المملكة، ينتظر ابن نايف في ما يشبه حجرة صغيرة. خرج الأخير، فتقدم ابن سلمان وهو تحت حماية حارس مسلح، متكلفاً المبالغة في إظهار الاحترام والتبجيل وتقبيل يده والإيحاء بالانحناء لتقبيل قدمه، أمام مشاعر جامدة لابن نايف وتلعثم أثناء ترديد عبارة «أبايعك على سنّة الله ورسوله في المنشط والمكره»، ومن ثم ترداد جملة: «الله يعينك… أنا الآن مرتاح»، وربّت ابن نايف كتف ابن سلمان وهمّ بالمضي على هيئة المستعجل، بعد أن سمع من ولي العهد الجديد عبارة: «لن نستغني عن توجيهاتكم». من الواضح أن المشهد، رغم ما يبعثه من ريبة، أريد له أن ينتشر على عجل لتأكيد انتقال السلطة بسلاسة وفي أجواء من الوفاق بين أجنحة الحكم.
كان مفاجئاً صمود ابن نايف، وهو يشهد اقتراب السيف من رقبته
مهما يكن، فإن أيّ مشاهد من هذا النوع سيستعين بها ابن سلمان لن تكون مقنعة للعارفين بشخص ابن نايف وحجمه ودوره. فـ«أمير الدولة العميقة» في المملكة، كما يصفه البعض، ومهندس أمنها، تعرض أمس لعملية انقلاب سريعة ومباغتة في توقيتها، ولو كانت منتظرة. والرجل أصرّ على البقاء طوال الأشهر الماضية في منصبه، رغم كل التعيينات التي كان يعاينها من حوله، وظل يقاوم قضم مراكز نفوذه حتى الرمق الأخير. ولو كان في وارد التنازل الطوعي عن العرش، لفعل ذلك في وقت مبكر. حتى إنه في الساعات الماضية برز خبر تسلم الرجل لملف العلاقات مع العراق، وأكد غير مصدر عراقي وخليجي أنه بعد استقبال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، سيقوم ابن نايف بزيارة قريبة للعراق لتوطيد العلاقة مع الجار الشمالي! ما يفهم من كل ما تقدم أن ابن نايف أخذ غيلة، بعد أن جرى تشديد الحصار عليه شيئاً فشيئاً، حتى تم الاستفراد به أعزل من أي مخالب، ومن ثم الانقضاض عليه بالضربة القاضية.
ما كان مفاجئاً هو صمود ابن نايف طوال هذه المدة، وهو يشهد اقتراب السيف من رقبته، من دون الاتعاظ بسيناريو عمّه مقرن بن عبد العزيز، الذي عزله سلمان بالطريقة نفسها في وقت ليس ببعيد. لا شك في أن ابن نايف بقي حتى اللحظات الأخيرة يراهن على أمرين: دعم من أجنحة داخل العائلة تكنّ حقداً للجناح السلماني، وتفضيل واضح له لدى الدوائر الأميركية تلاشى لحظة وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
تسكيت المعارضين بتعديل نظام الحكم
ومن ضمن سلسلة القرارات الصادرة ، أضيفت إلى الفقرة «ب» من المادة الخامسة في نظام الحكم عبارة: «لا يكون من بعد أبناء الملك المؤسّس ملك ووليّ للعهد من فرع واحد من ذرية الملك المؤسّس». التعديل الجديد الذي يمنع ابن سلمان في حال توليه العرش تعيين أحد أبنائه أو إخوته ولياً للعهد، يعني شيئاً واحداً: محاولة الجناح السلماني طمأنة باقي الأجنحة إلى عدم نيّته إقصاء الجميع، وإيهام هؤلاء بأن الباب ترك مفتوحاً أمام فروع أخرى من العائلة للوصول إلى العرش نظرياً، وهو ما قد يخفف حنق المقصيين ويغريهم بانتظار فرصة ما، ويشجعهم على الالتفاف حول محمد بن سلمان، طمعاً.
وسائل الإعلام السعودية أشارت أمس إلى أن ثلاثة من أعضاء «هيئة البيعة» لم يصوّتوا لبن سلمان، مقابل موافقة جميع الأعضاء الـ31 المتبقين، لكن من دون توضيح إضافي يكشف عن هوية من وافق ومن عارض.
لا اعتراض على حكم ترامب
قبالة كل ما يجري، ماذا سيكون موقف محمد بن نايف، ومعه الآن جيش من الأمراء الممتعضين في أجنحة آل سعود، كمتعب بن عبد الله ومقرن وأحمد وطلال أنجال المؤسّس عبد العزيز؟ المرجّح أن هؤلاء جميعاً فقدوا أي أمل بالتمرد، خصوصاً بعد قمة ترامب في الرياض، والصفقات على هامشها. سيضطر هؤلاء إلى حبس الضغائن في صدورهم، ولن يتجرّأ أحدهم على الاعتراض بعد أن تيقّنوا بأن الأميركيين، المقرّرين الأوائل في هذا الملف، حسموا أمرهم بتلقف صفقة محمد بن سلمان للوصول إلى العرش، والمسماة بـ«رؤية 2030» وملحقاتها من صفقات تسليح فلكية الأرقام، بلغت ما يعادل مخزون البنك المركزي، إلا قليلاً، ما يعني أنه لم يعد أمام ابن نايف سوى التعايش مع «خذلان» الأميركيين له، وتنكّرهم لكل جهوده التي سلّفهم إياها في «الحرب على الإرهاب». تجدر الإشارة هنا إلى أن تعيين ابن نايف، وليس ابن سلمان، ولياً للعهد بدلاً من مقرن بن عبد العزيز، ربما اضطر إليه سلمان تحت ضغط أميركي، وبالتالي محاولة لاحتواء الرجل وتفريغ نفوذه، بانتظار جاهزية ابنه سلمان الحديث العهد بالسلطة، وغير المعروف في الداخل والخارج، والمنخرط حديثاً في حرب في اليمن تستهدف صناعة مجد ومراكمة بطولات وإنجازات.
ابن سلمان يكسب رهاناته
لا شك في أن أول المهنئين لابن سلمان، وأشدّهم غبطة وحبوراً بخطوة أمس، كان حليفه ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد. نجح الأخير في الإسهام في تذليل العقبات أمام ابن سلمان وتسويقه لدى الأميركيين. والتسريبات عن مساعي ابن زايد في واشنطن لحسم اسم ابن سلمان باتت في الأيام القليلة الماضية بحكم المؤكدة، بعد نشر وثائق مراسلات السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة.
أرفق الملك قراره بجملة أوامر تضمنت إعادة البدلات والمزايا المالية للموظفين
نجح رهان ابن سلمان على شراكة مع ابن زايد الرجل الأوثق أميركياً في المنطقة، وعلى استراتيجية وضعها الأمير الشاب بمساندة الشركات الاستشارية الغربية، قوامها تغيير صورة المملكة وفق النسق المرضى عنه أميركياً. استراتيجية عمادها التغيير في الوجه المتزمت للمملكة ودور المؤسسة الدينية فيها، بمشروع «هيئة الترفيه» ومتفرعاتها، وكفّ يد «هيئة الأمر بالمعروف»، والأهم فتح خزائن المملكة للاستثمار الأميركي، بصفقات «رؤية 2030».
وراثة مملكة مفخّخة
في المحصّلة، لم يعد لابن نايف، الذي ورثه عبد العزيز بن سعود بن نايف في وزارة الداخلية، أي دور سياسي في المملكة، وبقي ابن سلمان محتفظاً بمناصبه جميعها، بما فيها وزارة الدفاع، ومعها قائمة مفتوحة من الأعداء، في الداخل والخارج. مسلسل العداوات الذي تنتجه سياسات ولي العهد الجديد لن تتوقف عند باقي أجنحة آل سعود المقصاة من حظوة السلطة. ثمة فصل آخر من الإقصاء والتهميش والعزل ينتظره الجناح الوهابي المتشدد، ضمن مشروع لتغيير هوية المملكة الثقافية يقوده الرجل. يضاف إلى ما تقدم الحرب التي أشعلها ابن سلمان خليجياً، ضد محور قطر وجماعة «الإخوان المسلمين» الذي حاول ابن نايف احتواءه والتصالح معه مرحلياً. كلها باتت قنابل موقوتة بوجه ملك مستقبلي يصرّ على وراثة مملكة مأزومة داخلياً، كثيرة الأعداء في المنطقة، تكتفي بالرهان على الراعي الأميركي.
تسكيت الشعب… بالمكافآت
وكما عوّد الملك سلمان شعب الجزيرة العربية عند كل أوامر ملكية مفاجئة وحساسة تخرج فجراً، ثمة قنبلة دخانية تعطف على الأوامر، تتضمن قرارات شعبوية لإلهاء شرائح المجتمع عن النقاش في قرارات مصيرية تطال مستقبلهم. فقد أرفق الملك أمس قرار إطاحة ابن نايف وتسليم مصير الدولة لنجله، بجملة أوامر ملكية تضمنت إعادة جميع البدلات والمكافآت والمزايا المالية لموظفي الدولة من مدنيين وعسكريين، والتي تم إلغاؤها أو تعديلها أو إيقافها، إلى ما كانت عليه، إضافة إلى تمديد إجازة عيد الفطر إلى 15 شوال لجميع موظفي القطاع الحكومي. وهكذا يكون سلمان قد أشرك شعبه «بالقوة» في الاحتفاء بما ارتآه مناسباً لمصير دولته، ومقدراتها ومستقبلها.