جاء تطور الأوضاع في اليمن على عكس توقعات أمد الحرب الذي طال واستطال، حتى تقوّضت مبادئ السلام من أجل استعادة الشرعية. وأصبح الخطر المحدق بها من كل الجهات، بالإضافة إلى الحرب والمجاعة واستلاب الشرعية، انبعاث الرغبات الانفصالية من جديد نتيجةً لهذه القلاقل داخل بناء الدولة وهذه النكبات، فالوحدة حتى قبل ثورة الشباب اليمنية لم تكن قويةً بالقدر الذي يؤهلها لأن تصمد أمام رياح الانفصال العاتية التي تهبّ من المناطق البعيدة.
سنوات عديدة، وما زال حديث العالم عن إنقاذ اليمن لا يُحرّك ساكناً. كان لافتاً تقديم النائبة السويدية، جيت غوتلاند، مداخلتها في مجلس البرلمان الأوروبي، في إبريل/ نيسان الماضي، حول مجاعة الأطفال، ومعها رضيعها الذي يرافقها دائماً في هذه الجلسات. ذكّرت غوتلاند البرلمان الأوروبي بأنّها تحدّثت مراراً عن مجاعات في اليمن وجنوب السودان والصومال. ولعل من سوء التصاوير أنّ هذه الدول جنوب الخارطة الرسمية للوطنالعربي، ما يؤكد التهميش، ويركّز منه بالنسبة للجنوب العالمي مفهوماً جيوسياسياً عتيداً.
وعلى الرغم من أنّ شبح المجاعة ظلّ يلوح باليمن منذ عشر سنوات تقريباً، إلّا أنّ الحرب ضاعفت من حدة المشكلة التي تحولت إلى تراجعٍ حاد في مخزون الغذاء، حتى باتت الغالبية من سكان البلاد تعاني من الجوع، وانخفضت معدلات الأمن الغذائي في البلد الفقير أصلاً.
تعتبر قضية الصرف على الأمن والدفاع من المسائل الجوهرية التي تواجه حكومات العالم الثالث والحكومات الهشّة عموماً في ميزانياتها، وبدخول اليمن إلى أتون الحرب القبلية، والتدخل الحوثي واستيلائهم على العاصمة صنعاء، ثم هبوط أسعار النفط والهجمات على خطوط الأنابيب زادت الأمور تعقيداً، ما أحدث تأثيراً كبيراً على الوضع الاقتصادي في البلاد، وأدّى التدهور المريع في سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية إلى العجز التام في ميزانية الدولة. وإذا لم يتم كبح جماح الاضطرابات، ولم يستأنف المجتمع الدولي المساعدات التي ضمنت، فترةً طويلةً، قدرة السكان على العيش في حد الكفاف، فإنّ الوضع قد يستلزم تدخلاً تغلب عليه الوصاية الدولية أكثر من الإغاثية.
تقرُّ المنظمات الدولية وتعترف بأنّ الوضع الإنساني في نحو تسع عشرة محافظة يمنية يعتبر كارثياً وفي حالة حرب، وأنّ شبح المجاعة يهدّد حوالي 12 مليون نسمة، يعانون النقص الحاد في حاجيات الحياة. وأنّ ضرب الحوثيين وقوات علي عبد الله صالح، تستهدف قلب المدن بسكانها وشرايين حياتهم من خزانات مياه ومحولات كهرباء ومستشفيات ومرافق صحية وحتى العاملين في مجالات الإغاثة. وجاء إعلان تحالف الانقلابيين الحوثيين فرض حالة الطوارئ، ليزيد الاعتقالات العشوائية، بعد أن أحرزت قوات التحالف من أجل استعادة الشرعية تقدماً ملحوظاً في معظم الجبهات العسكرية.
وكأنّ هذا الجحيم لا يكفي، لتزداد حالات الغضب والاحتجاجات الشعبية في عدن، العاصمة اليمنية المؤقتة في جنوب البلاد، إثر قرار الرئيس عبد ربه منصور هادي، أخيرا، إقالة محافظها. وإن كانت نتيجة الحرب هذه الأزمة الإنسانية الماثلة، فإنّ ما تم وصفه بالفساد تارة، وبالصراع على النفوذ تارة أخرى، يصعّد من القضية، ما تتناقص معه فرص الحل المطروحة.
وفي جنوب الجنوب اليمني، تظهر أزمة سوقطرى، فإن كان يجمع بين اليمنَين القديمين جوامع شتى، وتتعدّد أنواع حدود الاتصال في ثنايا الوحدة، فإنّ هذه الجزيرة في المحيط الهندي، وما حولها من جزر، تنافح من أجل التنمية وتكافح ضد الاستغلال. وبين ما يتردّد من أخبار عن تنازل الحكومة اليمنية عن جزيرة سقطرى لصالح الإمارات، وما تقوم به الأخيرة من دور إغاثي وتنموي في الجزيرة، تنهزم الأحلام في إزالة عزلة هذه الجزيرة البعيدة من يابسة الوطن اليمني. ولا يقلُّ الوضع خطورةً في جنوب اليمن، حيث نشطت إحدى الحركات الانفصالية منذ بدايات الألفية الثانية، مدفوعة بمطالب التنمية ومحتجةً على التهميش. ولذا، فإنّ الحرب الدائرة تمثّل المعيق للتنمية، أو على أسوأ الفروض، تعرقل مساعيها المطالبة بالانفصال.
وما يساعد على ذلك، انعزال الجزيرة بمنطقة حاجزة طبيعياً، ما يؤدي إلى نشأة حدود الانفصال. ومن ثم، ففي ظلّ غياب الدولة، سوف يواجه ظهور النزعات الانفصالية على السطح أنّ القوى الأجنبية تلعب دوراً فاعلاً في الإبقاء على هذه المناطق غير متكاملة إقليمياً، ما يُهيئ المناخ لإثارة الحركات الثورية الانفصالية، تماشياً مع مصالحها.
بنظرةٍ شاملةٍ إلى المنطقة، تعود إلى الأذهان الاستراتيجية الأميركية التي وضعتها رئاسة الأركان للجيش الأميركي في أغسطس/آب 1948 بشأن شبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر. وعلى الرغم من التغيرات الدراماتيكية التي شملت العالم، يطلّ شبحها عندما تبرز الزعازع في المنطقة، خصوصا في الجزر اليمنية والمضائق التي تعكس أنّ الاهتمام الأميركي ليس حديثاً، وإنّما يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم سقوط المعسكر الشيوعي، وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة القطبية الوحيدة في العالم، وإلى حين تشكّل النظام العالمي الحالي.
يغرق اليمن في الأزمات، وأشدها خطر التقسيم إلى حدٍّ يجعله مهدّداً بالانزلاق إلى تقسيمه إلى دويلات صغيرة، وما لم يُسارع المجتمع الدولي إلى إنقاذه، لن يكون تولي كل مجموعة على رأس سلطة هي الحل. بالإضافة إلى الشقاق الأبرز في الحكومة الحالية، هناك خطر الاحتكاكات فيما بينها، خصوصا أنّ المطامع تتجاوز حدود السلطة والدولة الواحدة، والتي قد تتأزّم معها المنطقة العربية ومنطقة القرن الأفريقي التي تعاني من ويلات المجاعة والاحتراب هي الأخرى.