لم تأتِ قمم واجتماعات الرياض بزخارفها وبذخها وأدوات تعبيرها السيميائية وصفقاتها المالية المهولة لتغطي على سلسلة الإخفاقات السياسية والعسكرية التي مُنيت بها المملكة السعودية خلال عهودها الأخيرة فحسب، بل هدفت أيضاً إلى إبعاد التهمة عن «الوهابية» في كل ما سبّبته من عنف مريع، وتكفير، وتعصّب، وشعوذة فتوائية استمرت في تغذية المتخيل الإسلامي بمستلزمات تهديد الأمن والاستقرار.
صحيح أنّ التفاعلات التي أتاحتها مداولات الرياض وفّرت شروطاً معقولة جرى التأسيس عليها سعودياً، وربما ليس لوقت طويل، لتدعيم شرعية الحكم في المملكة، وإعادة الاعتبار لدورها في النظام الإقليمي الجديد في إطار خاصيّتين رئيسيتين الأولى: مواصلة الخطاب الهجومي ضد إيران وحزب الله، والثانية: الانفتاح على الكيان الإسرائيلي. لكن أحداً من المجتمعين لم يُظهر حماسته لتسليف الوهابية صوتاً واحداً، ولو كان مخادعاً. ولا وُجدت نيّة لإعفائها من شوائب الممارسات المشينة التي غيّرت البيئة الميتافيزيقية للمسلمين وأصابت الإسلام بهذا الطلع الزائف من القتلة المأخوذ بأفكار محمد بن عبد الوهاب!
الذعر السعودي من طريقة الهياج الهستيري للرئيس الأميركي دونالد ترامب جعل صوت الدنانير يرتفع عالياً، لكن من دون طمأنة نهائية لممثلي الوهابية على مشروعاتهم الدينية وأنشطتهم الدعويّة. كل ما أمله السعوديون امتصاص نقمة وتوتر الإدارة الجديدة، وشراء رضاها بالمال، والطلب منها إدارة الظهر قليلاً عن مسؤولية الفكر الوهابي وسياسات أمراء سعوديين في تورطهم في تمويل الإرهاب الذي أصبح مثار نقاش عالمي وخصوصاً داخل الولايات المتحدة الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001.
وإذا كانت المملكة السعودية تستدرك لحظة خطر قادمة عليها بهذه الحشود والأرقام المالية الفلكية والاحتفالات العامرة وصفقات السلاح لتطمئن نفسها من الزوابع المحيطة بها، فإنّ ما ينتظر الوهابية لا يكفي معه التوريات الكلامية للمحتشدين في القاعات الفارهة، ولا جرجرة النعال في عواصم القرار. فالتبدلات الحدّية التي تطبع مسار هذه المرحلة وآثارها العالمية لن تترك خرائط الدول وأفكار الشعوب على حالها أبداً!
على هذا الأساس بدأت تبرز خلال السنوات الأخيرة مجموعة من المؤشرات التي نفترض أنها سترفع من حجم القيود والإكراهات على الوهابية والخطابات الصادرة عن زعمائه، فالجميع تقريباً في هذا العالم واعون لعبثية وكارثية هذا الفكر الذي يجري عكس مناخ العصر والقيم الإسلامية والإنسانية، وبات بمفاعيله يهدد أسس الحياة والاستقرار في المنطقة والعالم. في هذه المقالة رصد لبعض مؤشرات واتجاهات التغيير التي تنذر بانهيار الحالة الوهابية.
أولاً: لا يحول اليوم شيء دون إظهار نفور المذاهب الإسلامية السنّية من الوهابية. لم يعد الأمر يتعلق بحسد الحواضر التاريخية ومجالات نفوذها بين المسلمين، ولا في الاجتهادات ومستوى انتشارها وهيمنتها، وإنمّا بالأصولية الصارمة وأنماط المعارف الهجينة التي تغلغلت في الجهاز الإدراكي للمسلمين وانعكست انحرافات كبرى واختلالات فادحة على مستوى المفهومات والتعاليم. الأزمة وصلت مع الوهابية إلى الحد الذي بدا أنّها تحاول السيطرة على المسلمين السنة ومصادرة التعددية المذهبية، بما يؤسس لرغبة عميقة لديها بإعادة قولبة جذرية للمعتقدات والسلوك والثقافات والعادات التي كوّنت البنية النفسية والعقلية والاجتماعية للمسلمين السنّة، والانتهاء إلى اعتبار ما يصدر عن الوهابية يمثل هوية الأمة الإسلامية القادمة.
ثانياً: نزع مؤتمر غروزني الذي انعقد في 25 أغسطس 2016 وضم أكثر من 200 عالم دين من أنحاء العالم يتقدمهم شيخ الأزهر أحمد الطيب غطاء الأسطورة والتزييف عن وجه الوهابية عندما أعاد تعريف الحالة السنيّة، بسؤاله: «من هم أهل السنّة والجماعة؟»، واعتماده تصنيفاً علميّاً منهجيّاً للفرق الإسلامية في مخرجاته. وقدّم نقضاً لنظام المشروعية الذي استندت الوهابية إليه في إدارة الجهد الديني التبليغي الذي يعاني من تحجرات وجمود في فهم النصوص الدينية، ومن ضيق أفق ثقافي، ومن بهلوانيات فقهية واسعة. ما أراده مؤتمر غروزني هو سحب الأستاذية العقائدية المزعومة من قبل الوهابية بوصفها الممثلة الأحق والأصلح للإسلام والتراث الديني، وإبطال نظام المعرفة الذي أشادته بالفتوحات النفطية!
ثالثاً: إنّ الوهابية تريد من المسلمين أن لا يروا إلا ما تراه هي. وما تراه هو الحق المصان بشبكة كاملة من الإسقاطات المخدرة. وهي تتعاطى مع الأفراد كجمادات ساكنة مستلبة الوعي والطموح والحركة! لكن يتبين اليوم أنّ هذا التصور عن الأفراد مع التحوّلات العلمية والقيمية المتسارعة، والديناميات المجتمعية الهائلة، سقط بالتمام. إذ إنّ نظرة بسيطة للواقع داخل المملكة تُظهر أنّ المجتمع يوّلد شخصيات معارضة ومضادة للأعراف والقيم السائدة، وإنّ محاولات التدجين الشكلاني والاجتماعي والشعائري للمجتمع السعودي في إطار نظام القيم الوهابي قد فشلت مع بروز مثقفين انفتحوا على عوالم الحداثة الغربية، وعلماء دين مارسوا جميعاً دوراً لا يستهان به في عملية نقد ونقض للوهابية على مستوى الأسس والوعي والبنى التحتية.
رابعاً: إنّ الوهابية لم تُشكل ثقافة منهجية علمية قابلة للتطور ضمن مناخات الحرية الفكرية. فما هو معروف عنها، أنّها مثقلة بالتصورات التي هيمن عليها العقل التاريخي، وبالنتف الفقهية المجزَأة للأسلاف، وبالأنماط السلوكية الصارمة التي تُفهمنا نوعية المتخيل الديني والاجتماعي والسياسي السائد عند الأجيال الحالية. ومن الطبيعي أن لا تعيش إلا ضمن بيئة من الكبت والإحباط واليأس الاجتماعي والسياسي، أو داخل مجتمعات تقليدية محدودة المعرفة، أو بين أفراد جمعتهم التعاسات الاجتماعية والتوهمات الميتافيزيقية والمخدرات العقائدية. إنّ كل من اطلع على كتب الوهابية يرى ابتعادها عن العلم ومنهجياته وعن النظرة الحضارية إلى المستقبل. معظم ما هو موجود فيها مبني على مفاهيم فوقية، حتمية، صراعية مشحونة بالغضب والانفعال والدعاية والكراهية، وتؤسس للقطيعة مع الحياة ومع الآخر المختلِف، كما أنّها بعيدة عن المجال العام وتفاعلات الناس وبمكونات الواقع كما لو أنها خُلقت في القرون الوسطى ومصرة على البقاء حيّة حتى هذا الزمن.
خامساً: لقد تعرضت الوهابية خلال السنوات الماضية إلى حملة انتقادات هائلة بالنظر إلى مسؤوليتها في ترويج الفكر الإلغائي، وفي إنتاج الوقود التكفيري في خضم تحولات البيئة الإقليمية والدولية المضطربة. إنّ العالم بأسره الذي يتابع اليوم مشاهد العمليات الإرهابية، بدأ يلحظ تبعات ونتائج التساهل مع هذا الفكر مراعاة ومحاباة للنظام السعودي. وتُبدي الحكومات الغربية على وجه الخصوص مراجعات جادة، قانونية وسياسية وأمنية، لمعالجة هذا المرض الفتاك بصورة جذرية، بعدما وجدت أنّ الاستثمار على هذا الخط حتى لو حقق لها أرباحاً مرحلية، إلا أنّه بات يشكل مخاطر عالمية على الأمن والاستقرار وعلى مستقبل الحياة البشرية التي باتت بحاجة سريعة إلى من يصحح لها أنماط علاقاتها وقيمها.
سادساً: لقد أخفق النظام السعودي الراعي والحامي الرسمي للوهابية في أدائه الداخلي وفي مجال السياسة الخارجية التي اتخذت في السنوات الأخيرة مواقف عدوانية وغير متوازنة محدثة حواجز نفسية وتعقيدات سياسية هائلة، لا يظهر أنّها سترسو على مرفأ التسوية. بل إنّ كل المراقبين يتنبؤون بأزمات جديدة لعل أبرزها سيكون داخل الأسرة الخليجية، ما سيرفع من منسوب الاستنزاف واحتمالات التغيير داخل المملكة نفسها ما سيهدد الوهابية كنموذج ومشروع من مصدر دعمها الأساسي.
خلاصة: ليس من السهل أن يتخلى المؤمنون بالوهابية عن عقيدة أقاموا عليها حياتهم، ولكن التاريخ يعطينا صورة وافية عن مذاهب دينية انطوت على ذاتها، وانحنت قوائمها، وتبددت سياقاتها الفكرية، وتفككت شبكة نفوذها ومصالحها بفعل تحوّلات شديدة داخل المشاهد السياسية والثقافية والاجتماعية، وأمام تأثيرات الحروب والصراعات العاصفة التي حرّكت مياه الحقيقة فتهاوت السيادات المهيبة التي كان يُتوهم استحالة اهتزازها. صورة الوهابية والغرغرينا تأكل جسمها مرئية في هذه اللحظات بشكل واضح. وصقورها بات يُسمع صوت صرخاتهم بأعلى مما كانت تُسمع من قبل. ما عاد بإمكانهم الانفلات من المتغيرات الثقافية والتكنولوجية ولا إدارة الظهر لكل النقمات الداخلية والخارجية التي تزدهر وتسير باتجاه صدام حتمي معها.