الصباح اليمني_مساحة حرة|
تناقشت مع زملاء حول ما نلاحظه من إبهار بصري لـ(النهضة) في الخليج وتجلياتها في دولة قطر بالتزامن مع تنظيمها لكأس العالم.
نحن الذين نقيم داخل اليمن يعتبر احتدامنا حول ما نشاهده يعد موضوعياً، فنحن نعيش ونتفاعل في بقعة جغرافية ما تزال ملامحها على طبيعتها، خضرة زراعية وجبال وسواحل بلا ضجيج السفن.
في النقاش انقسم الزملاء لرأيين: الأول يجادل من منطلقات يعتقد أنها عقلانية بعيداً عن الخلافات الجزئية معهم، لذلك “فما يحدث في الخليج “نهضة حقيقية. أليس هذه الجمال في العُمران والرخاء الاقتصادي هي تجليات النهضة؟” يطرح هذا التساؤل للاستدلال على صحة المدلول.
أما الثاني، على النقيض، وبعد حجاج يختصر حُجيته بالقول:” لا يوجد نهضة وما نشاهده هو نتاج الفورة النفطية”.
هذا الخلاف في تقييم (نهضة الخليج) هو بالأساس نتيجة لعدم فهم أو تحديد معنى النهضة وماهيتها. ولسنا وحدنا المختلفين فقد انقسم الخطاب العربي القومي والإسلامي في القرن المنصرم في المنطلقات والوسائل وماهية النهضة العربية، وبالتالي تشكلت الدول في اتجاهين نقيضين. ما يهمنا هو معرفة خطاب النهضة بالنسبة للخليجيين وهل لها علاقة بـ(نهضتهم) الراهنة؟
خلال القرن المنصرم، انقسم الخطاب العربي إلى قسمين: قومي وإسلامي. شرط النهضة عند القوميين الوحدة العربية أولاً، وعند الاسلاميين الدولة الإسلامية أولاً. عرفنا هذا الانقسام مما وصلنا من مؤلفات الطرفين، وسبق أن ناقشناه في عدة مقالات سابقة.
في الخليج كانت المؤلفات في الفكر النهضوي قليلة، لأن مفهوم النهضة طالما ارتبط في بنية وشكل الدولة، ونظراً للنظام الملكي والمشيخي لديهم فقد كان مبرراً لعزوف الباحثين والمثقفين الخليجيين عن النقاش.
مع ذلك لم يكن الخليجيون بمعزل عن نقاش النهضة تماماً، فقد أعادوا طباعة مؤلفات المفكرين الإسلاميين والاهتمام بها، لكن ليس لتبني أطروحاتها وتطبيقها، بل رداً على الخطاب القومي الناصري خوفاً من وصول الثورة الشعبية إليهم، ثم قدموا خطاب مكثف رداً على الخطاب الإيراني بعد ثورة الخميني.
وفي التسعينيات ظهر خطاب (الصحوة الإسلامية) في الخليج تكون بمؤثرين:
مؤثر معرفي بما جاء من طروحات(الحاكمية والدولة الإسلامية) القادمة من الحركة الاسلامية في مصر، وتأثير الصراع مع إيران والحرب في افغانستان.
إننا الآن أمام تصورات وأفكار معرفية ثقافية أغرقت المجال العام الخليجي، تشكلت لعشرات السنين وبالتالي نتج عنها وعي خليجي إسلامي يقف بصرامة ضد التشيع مذهباً ودولة وضد القومية والعلمانية فكراً ودولة.
ثم نتساءل الآن كيف ظهرت هذه (النهضة الخليجية) إذا كانت ماهية المعرفة الصراع مع التشيع والعلمانية والقومية هي السائدة لديهم، ولم تكن الأبحاث والمؤلفات العلمية التجريبية هي المهيمنة لدى الخليجيين؟ لأن نهضة أي بلد هي تجليات العلوم التجريبية، وبالتالي فالقوة التحتية والجمال العمراني هو نتاج للعلم والبحث كما هي في التجربة الغربية والمشرقية.
إذا استعرنا الإجابة من الزملاء الذين عبروا على عدم وجود نهضة خليجية ولكنها مال (الفورة النفطية) فليست دقيقة، لأننا نجد دول عربية كالجزائر لديها ثروة غازية ما يمكن أن تجعلها متقدمة لكن مواطنيها أكثر دول بلاد المغرب العربي هجرة إلى أوروبا بحثا عن لقمة العيش والحال في ليبيا ونحن في اليمن أيضاً.
وإذا استعرنا الإجابة من الرأي الثاني عن وجود (نهضة خليجية حقيقية) فلا يمكن قيام نهضة بلا إطار علمي نظري وتجريبي، لأن النهضة لا تحدث من عدم، ولكنها منطلقاتها نظرية علمية وتطبيقية ولم نجد هذه النظرية العلمية في الخليج.
حقيقة ما يحدث في الخليج لا هو بسبب مال الفورة النفطية لوحده، ولا هي نهضة حقيقية. ما يحدث هو نتيجة تدبير سياسي مؤقت، وأصداء العولمة الرأس مالية الغربية.
تكاد الأبحاث العربية تخلو من إعادة تقييم تجربة الأنظمة الملكية المشيخية الخليجية وتجاوزها للفقر والاضطراب السياسي والاقتصادي والحروب، بالمقارنة مع إخفاقات الأنظمة الجمهورية والقومية كون ذلك يعد بنظرهم تراجعاً عن مفهوم الحداثة المقترنة بالنهضة والتقدم.
بالعودة إلى الستينيات كانت عدن مدينة أيقونة بالمقارنة بمدن الخليج ونموذج بالنسبة للخليجيين. استخراجهم للنفط نقلهم من الحياة البدائية إلى ثراء من الرفاهية، وحين أصبح النفط أحد ديناميات الرأس المالية ارتبط الغرب بالنفط الخليجي، وتطورت علاقة الطرفين لتصبح في ذروتها على شكل إنشاء شركات عابرة للهويات في المدن والموانئ الخليجية، وهي شركات متعددة الجنسيات مجالها التداولي الأسواق العالمية المفتوحة، ومن الطبيعي أن تنشأ طبقة من الرأس ماليين الخليجيين حكوميين ومحكومين خلال هذه السنوات نتيجة للتداخل التجاري مع عقول الرأس مالية الغربية وبالتالي تحول مال الفورة النفطية إلى مشاريع تجارية، فيما اتجهت سلطاتهم إلى التفنن في هندسة الفولاذ والزجاج على شكل بناءات جميلة.
وبالتوازي مع ذلك، فلم يكن وحده المال النفطي والتداخل مع الرأس مالية وشركات العولمة متعددة الجنسيات هي من أحدثت ما نشاهده، ولكن النظام السياسي في الخليج الملكي والمشيخي تمكن من إدارة الاضطرابات السياسية والسيطرة عليها. العلاقة طردية بين الاستقرار السياسي والتنمية.
إن الحديث عن الفائدة التي قدمها شكل النظام السياسي في الخليج لا نهدف منه للدعوة إلى تعميم التجربة على البلدان العربية الجمهورية، فهي تبقى أشكال أنظمة في حالة اشتباك مؤجل مع المجتمع، وما يؤخر هذا الاشتباك هو ذلك النوع من التدبير في عقل المسؤول الخليجي في إدارة علاقته الأبوية مع المجتمع، ووفرة المال الذي يقدمه للمواطن، ما جعل هذا النوع من التدبير والمال يغطي عيوب شكل النظام الخليجي.
يمكن القول إذن: إن نوعاً من التدبير السياسي في الأنظمة الخليجية واستثمار مال النفط والانفتاح على الرأس مالية الغربية وشركات العولمة أنتج جمال عمراني، وأن ماهية هذا الجمال هو أصداء العولمة الرأس مالية وليس نهضة عن أصالة معرفية علمية تراكمية، لأن النهضة تنمو بالتوازي مع العلم.