منذ الوهلة الأولى يدهشك الإنسان اليمني بزيهالشعبي التقليدي الأصيل وبهمة نحلة وقعت على زهرة تقع عيناك على تفاصيل ذلك الملبوس المتقن الذي يلفه الرجل على الجزء الأسفل من جسمه من الخصر إلى مابين القدم والركبة، فتبهر وأنت تغوص في تلك التفاصيل.. دقة تراص خيوطه وانسجام أشكال زخارفه ونقوشه المتقنة وزهاء وتناغم ألوان خيوطه وكأنك تقرأ لوحة تشكيلية بديعة رسمتها أنامل ذهبية لا تقل شأنا عن أنامل دافنشي وبيكاسو، الذين تركوا لوحات فنية تعرض بين الحين والآخر على المزادات العالمية وتكتشف فيما بعد أنك في معرض فني مفتوح يرتدي أكثر من 85 في المائة من اليمنيين لوحاته الفنية الفريدة المتنوعة بتنوع أنماط وألوان المدارس الفنية المختلفة.
وحياكة المعاوز من الصناعات النسيجية التي تمارس بالوسائل التقليدية كمهنة أصيلة حافظت على مكانتها من الاندثار أمام طغيان الماكينة والمنافسة الكبيرة ليظل المعوز موروثا شعبيا يدل على العراقة والتميز والإبداع إذ تكشف الرسوم والتماثيل الأثرية للحضارات اليمنية القديمة أن المعوز يمثل صورة نمطية للزي الذي ارتداه الإنسان اليمني القديم وحافظ على مكانته عبر التاريخ ومع مرور تلك الحقب الزمنية نشر اليمنيون هذا الزى إلى الكثير من العالم خصوصاً في قارة إفريقيا وشرق آسيا سواء عن طريق الهجرات اليمنية التاريخية أو عبر التجارة الملاحية وموقع اليمن التجاري الذي تمر إليه طريق القوافل.
ورغم ما مرت به المعاوز إلا أنها ما تزال تحافظ على شعبيتها.. حيث كان يطلق عليها أزر أو الكساء وكان يرتديه أهل الريف وشاع في الماضي بين القبائل وقد سمتها (معاوز) و المعاوز بالفتح جمع معوز بالكسر وهو الثوب الذي لا يتبدل؛ لأنه لباس المعوزين (الفقراء) وتصنف المعاوز بشكل عام إلى ثلاثة أنواع، منها الصافي أو( السادة) باللهجة الشعبية ويكون بلون واحد و(القدا) يكون بلونين والثالث النقشة وهو ينسج بلون واحد أو أكثر لكنه سميك وتدخل فيه النقشات التي تكون إما بلون واحد أو أكثر، حيث تطرز المعاوز وتطعم بزخارف ورسومات ملونة تجعل منها لوحة تشكيلية غاية في الجمال.
وآلة حياكة (المعاوز) فريدة في عملها بسيطة في تركيبها ومكوناتها التي هي عبارة عن مجموعة من القطع الخشبية تسمى القاعدة فلم تكن آلة الحياكة القديمة كما هي عليه حاليا فهي ذات حجم كبير يتطلب تركيبها وجود مكان متسع وفي دور أرضي إذ تحتاج إلى حفرة في الأرض بعمق 60 سم تثبت فيها الزناجر( الدعسات) يجلس الحائك على حافتها ويمد إلى الحفرة رجليه لتحريك الزناجر (الدعسات) لتبدأ عملية النسج.. وهي غير قادرة على إدخال النقشات والزخارف على المنسوج فهي تنتج قماشا عاديا (سادة) يطلق عليه مقطب، وذلك بسبب قلة عدد (المواجح)، وهي المسؤولة عن إدخال النقشات والزخارف والعبارات إلى المنسوج (المعوز) بدقة متناهية.. حيث كان للآلة القديمة موجحان فقط.. وكان لذلك الحجم الكبير إسهاما في إنتاج المقطب كقطعة كاملة على عكس الآلة الحديثة التي ينتج خلالها المعوز على مرحلتين في كل مرحلة قطعة طولية تسمى (شقة) تلصقان ببعض بآلة تطريز خاصة.
وكان الحائك يتمكن من إنتاج ثلاثة مقاطب، خلال اليوم الواحد على الآلة القديمة، لكن ليس بالجودة التي هي عليها حاليا بسبب رداءة الخيط الذي كان يغزل محليا من القطن، لكن ذلك الخيط كان عرضة للانقطاع بين لحظة وأخرى أثناء عملية الحياكة.. ومع الزمن تغيرت عملية الحياكة عما كانت عليه سابقا بسبب إدخال تعديلات على آلة الحياكة التقليدية من خلال مضاعفة عدد من القطع الرئيسية فيها وابتكار تصاميم صغيرة مناسبة وهو ما مكن من تحسين مستوى المنسوج المنتج.. فأرتفع عدد المواجح المدخلة على الآلة من موجحين في القديمة إلى أربعة ثم ستة وأخيرا ثمانية (مواجح).
وكان الخيط الأساس الذي يشكل منه المعوز (الشرعة) توضع في حفرة على الجهة الأخرى من الحائك ويتطلب تركيبها على الآلة جهدا كبيرا لترتيبها وربطها في بداية العمل، لكنه تم ابتكار طريقة أخرى للف الخيط الأساس على بكرة حديدية كبيرة تثبت على الآلة وتلف بعناية من خلال مصانع تخصصت في هذه المجال يطلق على تلك البكرة (البيم) ويمتاز باحتوائه على كمية من الخيط الأساس تكفي لإنجاز 16 معوزا، بينما تحتوي الشرعة كمية من الخيط تكفي لانجاز 8 معاوز فقط، ويتشكل المعوز من 1800-2000 خيط من الخيط الأساس الطولي.
* أدوات الحياكة
ويطلق أهل هذه الحرفة مسميات ومصطلحات مختلفة عن مكونات هذه الآلة يتعارف عليها فيما بينهم من تلك الأجزاء الرئيسية القاعدة وهي مجموعة من القطع الخشبية تتركب عليها الأجزاء الرئيسة للآلة، فالكرك مثلاً، عبارة عن عود خشبي مثبت عرضيا يمر من خلاله الخيط الأساسي القادم من الشرعة أو البيم. والبيم عجلة من الحديد يلتف عليها الخيط الأساس الثابت الذي يشكل الغزل الرئيسي في المنسوج ويمتد طوليا على أجزاء آلة الحياكة خلال مرحلة النسيج، “الشرعة” نوع آخر من الخيط الأساس على عكس البيم والشرعة اسم يطلق على الخيط الأساس قبل أن يظهر (البيم) حيث كان الخيط يترك على شكل كوم والحائك من يقوم بترتيبه.
أما (الهات) قطعة خشبية تتدلى من أعلى آلة الحياكة حتى منتصفها عبر ذراعين تتحرك في اتجاهين متقابلين وهي الأقرب إلى الحائك ويحتضن (الهات) القلب الذي هو عبارة عن مجموعة كبيرة الأعمدة الخشبية الدقيقة المتراصة بعناية كأسنان المشط تصنع من الخشب الجيد.. ويصل عدد الأعمدة الخشبية إلى 500 عمود يمر من خلالها الخيط الأساس الثابت وظيفتها رص الخيط أثناء عملية الحياكة وإظهار المنسوج مترابطا متماسكا، أما (المواجح) أو الأنياص خيوط وترية عددها حوالي 500 نيصة تتركب على أعمدة يتراوح عددها بين 2 – 4 – 6 – 8 بحسب نوعية الآلة، و(المواجح أو الأنياص) ترتبط (بالزناجر) أو (الدعسات) التي يديرها الحائك برجليه لتكتمل عملية الحياكة والتي تعمل بشكل تكاملي على قسم الغزل أو الخيط الأساس الثابت إلى طبقات ترفع جزءا منها إلى أعلى وتخفض الجزء الآخر إلى أسفل لتسهيل تمرير الخيط العرضي، أيضاً هناك (السماسم) وهي أعمدة خشبية كالعصي توضع بين طبقات الخيط الأساس الثابت في الاتجاه القادم من البيم أو الشرعة لتعمل على شده وتنظيمه، يلي ذلك مباشرة (السندلي) وهو حبل يعمل على شد السماسم نحو البيم أو الشرعة لشد الخيط بهدف ترابط المنسوج. بالقرب من أقدام الحائك يلتف المنسوج (المعوز) الجاهز على عمود خشبي يطلق عليه الطور أو المدرج أو (القي) بالإضافة إلى أجزاء أخرى تستخدم لتحريك المنسوج خلال عملية الحياكة.
* حرفة تحد من البطالة
وتسهم عملية حياكة المعاوز في إنعاش الاقتصاد اليمني من خلال تحسين المستوى المعيشي وإيجاد مصادر للدخل والحد من عملية البطالة وتستفيد منها آلاف الأسر اليمنية في كثير من المناطق من خلال عملية إنتاج المعاوز أو تسويته.. خاصة وأن المعاوز تحقق رواجا كبيراً في الأسواق اليمنية المحلية ويمتد الطلب إلى عدد من أسواق دول الجوار.
الحائك أحمد حسين حمزة /70 عاماً / ممن امتهنوا حياكة المعاوز منذ طفولته، قال انه تعلم هذه المهنة على يد والده الذي اكتسبها عن جده، والآن علمها لأولاده الذين يمارسون هذه الحرفة..
يقول حمزة : كان عمري عندما بدأت ممارسة المهنة لا يتجاوز 14 سنة كما هو حال غيري من أطفال قريتنا بني مسعود وصاب السافل وكان الكثير ممن في القرية يجيدون هذه الحرفة.. في ذلك الوقت كانت العديد من المناطق اليمنية تمر بمراحل قاسية يصعب فيها توفير (كفن) وكان الخيط رديئا ينقطع بشكل مستمر أثناء عملية الحياكة، فالخيط يغزل محليا من القطن الذي كان يزرع في مساحات واسعة من اليمن.
وللحد من انقطاع الخيط يلجأ الحائك إلى طلاء الخيط الأساس الشرعة بالذرة الشامية المهروسة بعد تبليله بالماء، وتدق الذرة تطرق لتكسبه صلابة وتماسك وزهاء للحد من عملية الانقطاع أثناء مرحلة الحياكة.. كان الحائك القديم يقوم بحياكة ونسج منسوجات متعددة كالحف والمقاطب والأزر والمعاجر المحاش التي تلف حول الخصر كالحزام.
ويطلق على من يقوم بعملية الصباغة بـ(الدقاق) نسبة إلى عملهم في وضع النيلة على المنسوج ودقه طرقه لتثبيتها.. فتوفير الخيط وغزله وإتقان عملية الصباغة كانت أهم مقومات نجاح الحياكة في ذلك الوقت وظهرت فيما بعد خيوط الحرير المستوردة.
* مناطق وأسر منتجة
واشتهرت العديد من المناطق اليمنية بحياكة المنسوجات ومنها المقاطب كزبيد وتهامة.. شبوة وحضرموت وعدن وكانت وصاب السافل من ضمن تلك المناطق والتي لا تزال مناطقها محافظة على هذه الحرفة الهامة خاصة في بني عبد الله وبني حطام وقور وبني غشيم، فكانت أسر بعينها مشهورة بهذه الحرفة كبيت المحجري في وصاب..أثناء ذلك يجلب التجار ملابس النساء من عدد من الأسواق باستثناء بعضها الذي يحاك ويصبغ محليا بألوان مختلفة كالمقارم.
مؤخرا اختفت حياكة اللحف والمعاجر (المحاش) والمقارم بسبب عدم قدرتها على المنافسة أمام المنسوجات الأخرى المستوردة واختفى الطلب عليها عكس (المقاطب) التي طورت حياكتها وأدخلت عليها النقشات والزخارف ويطلق عليها في الوقت الحالي المعاوز.
ويوضح الحائك أحمد حسين حمزة أن العقد الأخير من القرن العشرين مثل بداية انتعاش حقيقية في تأريخ حياكة المعاوز بعد أن كانت تشكو التذبذب .. فعند عودة الآلاف من المغتربين اليمنيين من عدد من دول الجوار عقب اندلاع حرب الخليج الأولى أحيا الكثيرين منهم هذه الحرفة وتعلمها الكثير وانتشرت في مناطق لم تعرف فيها من قبل وازداد خلال ذلك الطلب على المعاوز.. لتصبح اليوم مهنة يجيدها الكبار والصغار..
ويشير الحائك أحمد حسين حمزة إلى أن العائد حاليا أفضل مما كان عليه، فالمعاوز تلاقي رواجا في الكثير من الأسواق المحلية والعربية.
* مسميات وأشكال مطلوبة
من جهته يقول الحائك محمد أحمد القوري 35 عاما إن أكثر الأنواع طلبا ورواجا ذات النقشات والزخارف الخفيفة والتشكيلات الجديدة واللون الهادئ.. وتختلف الطلبات باختلاف المناطق .. ويؤكد أن مواسم الأعياد تشكل رواجا كبيرا لمنتجاتهم من المعاوز على عكس بقية أيام السنة حيث يقل الطلب طوال العام باستثناء فترات الأعياد.. فيستعد أصحاب هذه الحرفة لمواسم الأعياد.. من خلال إنتاج كميات من المعاوز بتشكيلات جديدة ومتميزة.
وأضاف: أعداد المنتجين المتواجدين في السوق كثر جدا والمنافسة موجودة لذلك لابد أن نثبت رياديتنا في السوق من خلال ابتكار نقشات وزخارف وأشكال جديدة وجذابة ننزلها إلى السوق بين مرحلة وأخرى أحيانا مطلع كل شهر.. ونلجأ أحيانا إلى اقتباس أشكال وزخارف عن طريق الكمبيوتر يتم نقلها إلى المعاوز بما يتناسب مع أذواق الناس لتصريف كميات كبيرة وتحقيق الربح.
أما الحائك عبد الغني محمد أحمد 27عاماً فيشير إلى أنه هناك أنواع متعددة من المعاوز في عدد من المناطق اليمنية منها اللحجي والحضرمي والبيضاني والشبواني والوصابي ولا نعني أنها تنتج في تلك المناطق فقط.. وأحيانا تنسب إلى المناطق التي تلبس فيها ولكل نوع منها ميزته الخاصة.
* آلات جديدة مؤثرة
ويقول عبد الغني: لقد أثرت الآلات الحديثة على الأداء بشكل كبير بالرغم من رداءة منتجاتها ومع ذلك تأثرت منتجاتنا بسبب هذه المنافسة والآلات الحديثة تتطور بتطور الصناعات اليدوية بالرغم من تميز المنتج اليدوي وإتقان صنعته.. مشيراً إلى أن الخيط يشكل عائقا وكذلك الارتفاع المستمر في سعره الذي بسببه لا تعود علينا عملية الحياكة بالفائدة كما كانت عليه من قبل لعدم توفر الخيط المطلوب محليا.
وينوه عبد الغني إلى أن عدد المعاوز الذي ينتجها الحائك في اليوم يتوقف على نوعية المعوز فالنوع الخفيف يمكن للحائك إنجاز 2 – 3 معاوز يوميا أما النوع ذو النقشة الثقيلة فيمكن إنجاز معوز واحد.