تحتضن مدينة صنعاء القديمة بين أسوارها عادات وتقاليد عريقة تختصر مراحل من التاريخ اليمني.. ولن يكفيها مئة عام للاحتفال بكل تلك الروعة والجمال التي تجسد روحها وريحها، إنسانها وبناءها، عاداتها وتقاليدها، وكل التفاصيل الماثلة بين أسوارها رغم صلف الزمن ومتغيراته.
فما إن يدخل شهر ذو القعدة ، يستقبل اليمنيون موسم الحج بتقاليد وعادات جميلة ، ومن تلك التقاليد، المدرهة ( الارجوحة ) وتقوم على، تنظيم مراسيم الاحتفال لحجاج بيت الله ،منذ خروجهم من منازلهم قاصدين مكة المكرمة وحتى عودتهم منها، ويصاحب وداع الحجيج واستقبالهم الإنشاد الديني والموالد الدينية، التي تحتفل بالحاج جيئة وذهابا.
وقد أبدعت الذاكرة الشعبية اليمنية في المناسبات الدينية، وفي ظل ظروف نفسية وعاطفية مشحونة بالحب والشوق والفراق، العديد من الأشكال التعبيرية والممارسات التي تصاحبها أهازيج وأغان مرتبطة بالحدث ومعبِّرة عنه… فما هي المدرهة؟ وما قصتها؟ ولماذا غابت عن الحياة المعاصرة؟ وما هي تفاصيل هذه المحاولة المهمة لتوثيقها؟
تقليد (المدرهة) أو الأرجوحة كانت حاضرة الى عهد قريب في كل بيت صنعاني تقريبا ، واسم (المدرهة) مشتق من (المدْرة)، وبحسب الباحثين فإن الإمام والمؤرخ نشوان الحميري عرّف “المدرهة” في موسوعته الشهيرة (شمس العلوم) مؤكداً أن كلمة “المدرهة” تسمية عربية فصحى.
تركيب المدرهة:
و(المدرهة) من حيث الشكل عبارة عن أرجوحة كبيرة تصنع من الأشجار القوية كأشجار الطلح أو أشجار الأثل، ويتم ربط أعمدتها بحبال قوية ومتينة تسمى ( السَّلب)، ويتحرى الأهل عن أهمية توثيق أعمدتها، خشية انقطاعها، لأن انقطاعها يحمل اعتقاداً ينذر بالشؤم من أن الحاج في خطر.
وتنصيب “المدرهة” يُعد أهم معلم مرتبط بالحجيج، فعندما ينوي الحاج السفر لأداء مناسك الحج يقوم الأهل والجيران والأقارب بنصبها في حوش أو فناء كبير في منزل الحاج أو أحد الجيران ، أو في إحدى ساحات القرية ،أو مكان تجمع الناس كالميدان، وبالرغم من اختفاء تقاليد وطقوس “المدرهة” ، فإن نصبها في موسم الحج ما يزال شائعاً في صنعاء حتى الآن.
المدرهة وأرتباطها بفريضة الحج:
ويعود تقليد المدرهة (الأرجوحة أو المرجيحة ) في اليمن لفترات قديمة جداً، حيث يعد تعبيراً عن فرحة الأهالي بعودة حجاجهم بعد تعرضهم للعديد من الصعاب والمخاطر ، خلال سفرهم وتنقلهم بوسائل المواصلات القديمة حينذاك لأداء فريضة الحج..
كما تسمي ” مدرهة العودة “، حيث يُستقبل الحاج بطقوس تبدو غريبة لكنها مُسلية وفرائحية، حيث تبدأ مراسمها عقب عيد الأضحى بيومين أو ثلاثة أيام (خلال أيام التشريق)، والطامحة إلى تشويق الحاج للعودة إلى أهله ومحبيه، بالإضافة إلى ذكره بالخير والدعاء له بالعودة سالماً.
طقوس “المدرهة” في صنعاء القديمة غريبة وجميلة، حيث يوضع على “المدرهة” شال ، أو عمامة يسمونها “عمامة الحاج” الذي لم يأت بعد، وتستمر بعد عودته شهرين ،أو ثلاثة أشهر، يتجمع خلالها الجيران والأهل والأقارب والأصدقاء حول “المدرهة” وينشدون ، وقد علقوا عليها الجرس:
“يا مدرهة يا مدرهة..
مال صوتش واهي ..
قالت أنا واهية وما حد كساني ..
كسوتي رطلين حديد والخشب رُماني”.
ثم يأتي شخص يدعى “المُمَدْرِّه” وله سمات “المُسَبِح”، فينشد من ضمن ما ينشده” :
” يا مُبشر بالحج بشارتك بشارة..
هِنيَت لك يا حاجنا فزت بالغفراني
زرت قبر المصطفى وتلمس الأركاني..
والصلاة والسلام على الرسول
يا من سمع يصلي على النبي العدناني”.
لكن أغاني “المدرهة” ليست كلها فرحة، بل يكاد يغلب عليها طابع الحزن، وتُغنى بأبيات عفوية، وتبدأ بذكر الله وبالصلاة والسلام على رسوله الكريم، ثم بذكر الحجاج والدعاء لهم بالحج المبرور، وبالحفظ وسلامة العودة ،إلى الأهل والوطن، ومن نماذج هذه التغاريد هذا المغرد الذي يقال للحاج وهو ما يزال في داره منتظراً وسيلة المواصلات :
لوّ تبسرونا يا هلنا حين طرق (أي دق)
الباص في الباب
حسيت قلبي رجف، ودمعتي سيالة
وتتحدث بعض التغاريد عن أوصاف الحاج الخارجية (لحيته، عصاته، قميصه، لون بشرته….) أو عن صفاته الداخلية:
يا حجنا شيبة رضي
يطلب الرضوان
يطلب الله والنبي
تكريم الحجاج :
ويعتبر العديد من اليمنيين “المدرهة” وتنظيم مراسيم الاحتفال باستقبال الحجاج بعودتهم من مكة تكريم كل من (المتدرهين والمتدرهات ) الذين حافظوا على تراث وتقاليد المجتمع اليمني الاصيل والراسخ على مدى عقود من الزمن.
ويرجع سبب ارتباط “المدرهة” بالحج إلى كون السفر لأداء فريضة الحج قديماً كان أمراً شاقاً ومحفوفاً بالمخاطر، حيث كان الحاج يقضي من ثلاثة إلى أربعة أشهر في الذهاب إلى الأراضي المقدسة والعودة، ولذا كان الحاج يكتب وصيته قبل المغادرة، وكذلك يطلب المسامحة من الأهل والجيران، وما زال هذا التقليد جارياً حتى الآن.
ويتناوب الرجال والنساء – بدرجة أكبر- والأطفال أيضاً، على التأرجح على تلك “المدرهه”، وهم يغنون الأغاني الخاصة بهم طوال النهار، وردحاً من الليل.
وتمثل حركة “المدرهة” ذهاباً وإياباً، ارتفاعاً وانخفاضاً، محاكاة لقلب وعقل من عليها، وقلقه على الحاج، ولوعته وشوقه إليه، ويتضاعف القلق والشوق مع حركات “المدرهة” وكلمات الشوق.
وتعتبر هذه الأنواع من العادات والتقاليد تعد وجهاً سياحياً لليمن باعتبارها تقليد عريق يضم في جنباته ، حكاية الإنسان في مدننا اليمنية التي تعبق بتاريخ ذي تراث خصب إنساناً وحضارة.
ونخلص من كل ذلك إلى أن الكثير من التقاليد والممارسات الشعبية الجميلة، وأشكال التراث تكاد تنقرض قبل أن يجري توثيقها، ومنها تقاليد الحجيج التي بدأت في الاندثار، فلم يعد الخوف واسعاً على الحاج الذي يسافر على طائرة تحمله في ساعات قليلة إلى الأراضي المقدسة، واختفت مشاعر الاحتفاء الجميلة بوداع الحاج ، أو استقباله لكن العودة إلى إحياء هذه التقاليد يمثل انطلاقة جديده لحفظ التراث الشعبي والديني الذي يزخر بالكثير من الثراء والغنى الثقافي.