الصباح اليمني_مساحة حرة|
في عصر يوم الأربعاء المنصرم 24 فبراير 2021م انتهيت من إنجاز طباعة ومراجعة بحث تاريخي سوف أشارك به في أحد المؤتمرات العلمية، وقبيل المغرب بقليل فتحت الواتس لأرى هل هناك رسائل مهمة وصلت أثناء إغلاقه، وعندما فتحته ذهلت من الكم الكبير للرسائل التي وردتني، ولأن معظمها كان من مجموعات على صلة بجامعة صنعاء وكلية الآداب فيها، وقسم التاريخ والعلاقات الدولية بشكل خاص، فقد أنبأتني بحدثٍ جلل توقعته مباشرةً بسبب إرهاصات سوف أشير إليها، لذلك فتحت مجموعة القسم، وكانت الفاجعة المؤلمة والخبر الحزين؛ متمثلة بوفاة أستاذي القدير البروفيسور عبدالرحمن عبدالواحد الشجاع.
تسمرت في مكاني لا أدري كيف أتصرف، ودموعي تغسل وجهي، فالراحل الكبير كان يمتلك مكاناً مميزا في قلبي، نظراً لصلاة الود الاجتماعية والعلمية التي كان يغمرني بها، ويعلم الله وحده أن مكانته في نفسي تساوي مكانة أبي يرحمهما الله أجمعين. وهنا شق صوت المؤذن عنان السماء داعياً لصلاة المغرب، فقمت لصلاتي حزيناً كسيرا داعيا ربي بأن يتغمد ضيفه القادم إلى رحابه بالرحمة والغفران، وصليت عليه صلاة فردية قبل أن أشارك بالصلاة الجماعية علية في صباح اليوم التالي.
وكنا قد بكينا أستاذنا مسبقاً عندما علمنا قبل أكثر من شهر من وفاته بأن مرض السرطان اللعين قد تمكن منه، وسيطر على معدته، وقال الأطباء بصعوبة إجراء عملية لاستئصاله، ليرحل أستاذنا (مبطوناً شهيداً) بإذنه تعالى حسب ما ورد في الحديث النبوي الشريف. وكان آخر لقاء لنا به عندما قام دكاترة قسم التاريخ والعلاقات الدولية بزيارة جماعية له في منزله، ورغم الآلام الشديدة التي كان واضحاً أنه يعاني منها إلا أنه رفض أن يستقبلنا على سرير المرض وتهيأ لمقابلتنا على عادته بالحفاوة الكبيرة بضيوفه، وطلب منا آخذ صورة جماعية معه للذكرى، وكأنه كان يودعنا الوداع الأخير رحمة الله تغشاه.
وكم كان بودنا نحن تلامذته في قسم التاريخ وكل محبيه أن نزوره يومياً، لولا أن الزيارة كانت تشق عليه وترهقه وتتعبه، فاستعضنا بالتواصل التلفوني مع أولاده الكرام بديلاً للزيارة ووسيلة للاطمئنان عليه ومتابعة أخباره الصحية، وكانوا في آخر اتصال لي بهم قد أخبروني بأنه صار يدخل في نوبات من الغيبوبة، وذلك ما جعلني أقول بأني ربما توقعت الخبر الفاجعة عندما رأيت ذلك الكم الهائل من رسائل الواتس، وكانت عبارة عن مرثيات سريعة وحزينة لكل من عرف أستاذنا الراحل إلى عفو ربه.
وقد قرر أستاذنا الشجاع أن يواجه الموت على طريقة الأبطال، حيث علمنا أنه رتب كل الأمور التي تخص طريقة التعامل معه عند وفاته، وحدد حتى من يغّسله ويصلي عليه، وتلك لعمري شجاعة لا يمتلكها إلا قلة من الناس، خصوصاً من الذين يدركون بأن ما ينتظرهم عند ربهم أكبر وأهم بكثير مما سيتركونه خلف ظهورهم، وأستاذنا الشجاع (اسماً وصفة) نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحدا.
لقد كان أستاذنا طيب الله ثراه قريباً من جميع طلابه وأنا أحدهم، ينصحهم ويتابع أخبارهم العلمية والاجتماعية، ويمد لهم يد العون والتحفيز من أجل تجاوز أي عقبات تعترض طريقهم، ما يجعل كل واحد منا يعتقد أنه أقرب المقربين إليه، لكننا عندما نلتقي ونسمع من بعضنا اهتماماته بنا نضحك في قرارة أنفسنا، حيث نعلم أن تلك هي سيرة أستاذنا العظيم مع كل معاريفه ومحيطه، وأن ما يفعله هو سلوك عام جُبِل عليه، ويمارسه في حياته اليومية مع الجميع دون تكلف أو تصنع.
شخصيا تعرفت عليه وفي العام الدراسي 87/88م عندما كنت في السنة الثانية من دراستي للبكالوريوس في قسم التاريخ جامعة صنعاء، حيث تم تكليفه بأن يُدرِس لنا مادة تاريخ اليمن الإسلامي1، وقرر علينا فيها باكورة كتبه (اليمن في صدر الإسلام) الذي هو عبارة عن رسالته للماجستير، فوجدنا أنفسنا نقرأ فيه تاريخاً مترابطاً وشيقاً يبدو وكأننا نقرأه للوهلة الأولى، يسرد معلوماته بسلاسة وتسلسل منطقي، وبحوار منهجي منصف في المسائل الخلافية.
وكان ما ورد في كتابه من علم تاريخي ضافٍ يدعمه تألقه في محاضراته بصوته الهادئ المتزن، الذي لا يعلو ولا يغضب مهما اشتدت نقاشاتنا الجدلية معه، في مدرج مزدحم يشمل طلاب التاريخ في كليتي الآداب والتربية. وكان من محاسن الصدف بالنسبة لي أن العام الذي التحقت خلاله بدراستي الجامعية (1986م) كان هو العام نفسه الذي أنهى فيه أستاذي عبدالرحمن الشجاع دراساته العليا حيث حصل على الدكتوراه من جامعة الأزهر الشريف في نفس العام وحضر للتدريس في القسم في سنة التحاقي به.
وما أشرنا إليه من صفات أستاذي المؤرخ الشجاع هي صفات يشهد له بها الجميع، وهو ما أكدته المرثيات السريعة التي كتبت عنه فور إعلان وفاته، خصوصاً في منتدى المؤرخ الحصيف الذي يحوي كوكبة من المؤرخين اليمنيين، وسأكتفي هنا باقتباس بعضاً منها دون ذكر الأسماء، لأننا لسنا بوارد توثيق تلك الأسماء بقدر الاستشهاد بتلك الكلمات، وقد تابعها جميع أعضاء المنتدى، فقد كان المؤرخ البروفيسور عبدالرحمن الشجاع حسب تلك المرثيات: شغوفاً بتخصصه مخلصاً له، متميزاً بأدبه الجم وعلاقاته الإنسانية الممتدة. فهو في نظر الجميع شيخ مؤرخي التاريخ الإسلامي وأحد شوامخ المؤرخين العرب، المربي الكبير وصاحب الخلق الرفيع والتواضع الجم والرؤية الحصيفة والسلوك القويم.
وتُواصِل تلك المرثيات حديثها عن الأستاذ الدكتور الشجاع يرحمه الله لتصفه بأنه رحيماً في نظراته، كلماته تنحدر كالجُمَان لا تكاد تنطلق من فيه كلمة إلا ويشتاق مستمعه لأخرى. وهو صاحب العلم النافع، مع اعتدال في الطرح، ورصانة في النقاش، وأدب في الحوار، كتبه مفعمة بالموضوعية والاعتدال، متسمة بالغزارة العلمية، واسعة الأفق، مع رصانة وإنصاف.. وسأكتفي هنا بهذه المقتبسات المختصرة التي تعطينا لمحة موجزة عن شخصية أستاذي المؤرخ الشجاع ونوعية المادة العلمية في كتبه الكثيرة التي تقارب عشرة كتب، وأبحاثه العلمية التي تصل إلى العشرات، وهي ملحقة بسيرته الذاتية في موقعه على الشبكة العنكبوتية لمن أراد الرجوع إليها.
وخلاصة القول في هذا الأمر أن أستاذنا امتلك شجاعة في الطرح الموضوعي بغض النظر وافق رغبة هذا أو عارض رغبة ذاك، فالمعلومة التاريخية الأصيلة هي ما كان يبحث عنه، وهو ما يجعله يتعامل مع أي كتاب أو بحث له بتوثيق علمي مكتمل وكأنه يعد رسالة علمية سيناقشها أمام لجنة من المتخصصين، وظل على ذلك النهج إلى أن وافاه الأجل يرحمه الله، حتى بعد أن بلغ من الدرجات العلمية أعلاها وأصبح شيخاً من شيوخ التاريخ الإسلامي في اليمن والوطن العربي برمته، وهي صفة لا يتميز بها إلا القليل من أساتذة الجامعات ممن يمتلكون الشجاعة في مواجهة ذواتهم وعواطفهم أولاً قبل مواجهة الغير، وهم وحدهم من يمكننا وصفهم بالعلماء، وهو ما يجعلنا نتعامل مع اسم الشجاع الوارد في عنوان المقالة باعتباره صفة خاصة بأستاذنا قبل أن تكون لقباً اجتماعياً لأسرته الكريمة وتلحق باسمه المبجل.
وبلغ من أمانته العلمية أن يشير لأبحاث طلابه في بعض كتبه، عندما يتناول سياقا تاريخياً في أحد كتبه تطرق إليه أحدهم في بحث قدمه له، حيث فوجئت به على سبيل المثال وهو يهديني نسخة من الطبعة الأولى لكتابه (تاريخ اليمن في الإسلام حتى نهاية القرن الرابع الهجري) الصادر في عام 1996م، ثم يفتح لي الكتاب على صفحة 164، الهامش رقم 4، ليريني أنه أشار لبحثٍ يخصني غير منشور كنت قد قدمته له في السنة الرابعة من دراستي الجامعية قبل حوالي سبع سنوات من تأليفه لكتابه المذكور ضمن متطلبات إحدى المواد التي درستها لديه، وحقيقة لقد شعرت بذهول مصحوب بالإعجاب والإكبار، وتمتمتُ في نفسي قائلاً: لقد أتعبت يا أستاذي من سيأتي بعدك!
وكنت يومها في مرحلة تحضير رسالة الماجستير، وأستمتع بالتفرغ العلمي الذي منحني إياه كونه رئيساً للقسم، ليعفيني بذلك من ممارسة العمل الإداري الذي كان يتوجب عليّ القيام به بصفتي معيدا في القسم، وفعل ذلك معي ومع بقية زملائي وزميلاتي المعيدين والمعيدات في القسم، على الرغم أن كثير من رؤساء الأقسام في الكلية آنذاك رفضوا منح المعيدين لديهم ذلك التفرغ رغم تسجيلهم لرسائل الماجستير، ما جعلهم يغبطونا على رئيس قسمنا، ويتمنون لو أنهم كانوا يعملون لديه. فاحترام العاملين معه وتحقيق العدالة بينهم، وإنصافهم وتوفير الحماية لهم من شطحات المسؤولين الأعلى كانت من بعض مزاياه الخالدة التي لن ينساها من تعامل معه.
وكان يرحمه الله أثناء تحضيري لرسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراه يتابع خطواتي ويحفزني على سرعة إنجازها، خصوصا بعد تعيين أستاذي المشرف البروفيسور عبدالله حسن الشيبة أطال الله بعمره رئيساً لجامعة تعز، ما جعل تواصلي معه صعباً كوني أقيم في مدينة صنعاء، خاصة مع انعدام وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تكن قد وجدت بعد، حيث كنت أستعين بأستاذي الشجاع في الجوانب المنهجية التي تطرأ بصفة مستمرة، وأترك الجوانب العلمية إلى أن ألتقي بأستاذي الشيبة، كون تخصصي في التاريخ القديم وليس في التاريخ الإسلامي الذي هو تخصص أستاذي الشجاع.
في الأخير نقول بأن الذكريات الجميلة التي تربطني بأستاذي الراحل البروفيسور عبدالرحمن الشجاع كثيرة ويصعب حصرها في مقالة تهدف لرثائه، لذلك سأكتفي بما ذكرته، ومسك الختام فيه أن أستاذي المؤرخ الألمعي الشجاع كان قيمة في حياته، وسلوكياته وتصرفاته تحكمها المبادئ والقيم أكثر مما تحكمها المصالح، لذلك سيظل أستاذنا بعلمه وسلوكه وأخلاقه قيمة نهتدي بها بعد رحيله عنا، فالقيم لا تموت وتظل خالدة أبد الدهر.
ونختم هذه المقالة بخالص العزاء وعبارات المواساة لأنفسنا فيعلم الله أن مصابنا برحيله جلل، ولأولاده الأساتذة الأعزاء: بلال ومحمد وإبراهيم وأحمد وباسم ومعهم جميع أفراد أسرته الكريمة، وكذلك إخوانه أعضاء هيئة التدريس في جامعة صنعاء الأستاذ الدكتور محمد الشجاع والدكتور عبدالحميد الشجاع وبقية إخوانه الذين لم يسبق لي التشرف بمعرفتهم وجميع أولادهم، وهي أيضاً لجميع أقاربه ومحبيه وزملائه وطلابه.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
خليك معنا