|بقلم:عبدالباري طاهر|
الحالة العامة التي وصلت إليها الأمة العربية لا تترك مجالاً للأسئلة الفائضة عن الحاجة، ولا تبادل التهم الجزاف، ومحاولات كل طرف إلقاء التهم على الآخر.
تبقى أسئلة الخروج من الكارثة: الحروب، التفكك، الجنوح لجعل الماضي حاضراً، والتقاتل به وعليه. ثورة الشباب (الربيع العربي) المغدورة هدف كل فرقاء الحرب: الأنظمة الشائخة وأدواتها العسكرية والأمنية والسياسة والدينية في المنطقة العربية جلها، ومعارضتها المسلحة.
الشباب العربي، شباب القرن الواحد والعشرين، أدرك وبعمق أن نقطة الضعف الخطيرة أو كعب أخيل – كما يقال- هو الاستقواء بالقوة والاستناد إليها في الحكم وتأبيده وتداوله.
خلال القرن الماضي، شهدت الأمة العربية ما يزيد عن خمسين انقلاباً عسكرياً، وعشرات الاغتيالات السياسية في سبيل الوصول إلى السلطة، ومؤامرات قصور سندها القوة وحارسها الأمين أيضاً.
البيان الأول غالباً ما حدد هدفه الأول بطنين يصم الآذان: الخلاص من الاستعمار، وتحرير فلسطين، وتحقيق الديمقراطية والعدل الاجتماعي، وحتى الاشتراكية كمان، وأحياناً تسليم السلطة للمدنيين.
تزايد نفوذ الاستعمار، وربما انحسر عسكرياً، لكنه تغلغل وتوغل اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وذلكم الأخطر طبعاً بل هو الاستعمار الحقيقي.
خلال ثلثي قرن، أصبحت الأمة العربية أسوأ في كثير من مناطقها، وتدهورت أوضاعها عما كانت عليه في مطلع القرن الماضي، وأصبحت إسرائيل القوة الوحيدة في المنطقة، أكثر تفوقاً سياسياً واقتصادياً ومعرفياً وعسكرياً.
كانت وعود الحكم العربي كلها زائفة. سلكت الثورة العربية السلمية العفوية والتلقائية الطريق غير المعبدة، وطرحت الأسئلة المسكوت عنها (الاحتجاج المدني والسلمي).
قرأ الشباب معطيات العصر قراءة صحيحة، وأدرك إجابة السؤال الذي لم تستطع الحكومات المتعاقبة، ملكية وجمهورية وجملكية، الإجابة عليه، بل عملت على وأده ووصمه بالخيانة والعمالة وكل تهم التجريم والتخوين، ومارست عليه الحرب والإقصاء.
وكما كانت فلسطين المركز الرئيس للصراع القومي العربي – الإسرائيلي في النصف الثاني من القرن العشرين، وشهدت ثلاث حروب شهيرة، وجرت انقلابات عديدة في غير بلد باسم تحريرها، فقد كانت أيضاً البداية لانتفاضتين؛ الأولى: 1987، والثانية: 2000، وحققت نتائج طيبة، وإن كانت أقل من طموح وإرادة أمتها وشعبها.
الأهم أن الانتفاضتين امتدت شعلتهما المباركة إلى عموم البلدان العربية في المغرب والمشرق، حتى لقد وصلت إلى البلدان المغلقة أمام رياح الثورة العربية: السعودية، الكويت، البحرين، الأردن، وعمان؛ فالاستعمار الداخلي والخارجي عدوانان مشتركان للأمة كلها.
ما يدور من صراع مدمر في العراق وسوريا وليبيا واليمن محاولة مزلزلة للعودة بالمنطقة كلها إلى مكوناتها الأولى: الجهوية، والإثنية، والقبائلية، والطائفية، وهو هدف مشترك بين الاستعمارين: الداخلي والخارجي.
التفسير البوليسي للتاريخ، أو الإحالة إلى المؤامرة، لا يعني الكثير؛ فتحت الشمس المحرقة يمتشق الحاكمون كل ما في أيديهم من ذخيرة وسلاح ومليشيات وبلاطجة وشبيحة للحرب ضداً على شعوبهم التي أشارت بأصابع الاتهام إلى لصوصيتهم وفاشيتهم، وتفريطهم في السيادة والاستقلال، وتحالفهم مع الأعداء، ونكوصهم عن التنمية والبناء والتحديث، وعدائهم للحريات العامة، الديمقراطية، وتحديداً حرية الرأي والتعبير، وفشلهم وعجزهم المدقع عن قراءة وفهم روح العصر.
سر قوة الشعوب إرادتها للحياة والتطور والحداثة والعلم. الصراع الجهنمي المدمر للكيانات التاريخية الممتدة لآلاف السنين وللمعالم الحضارية والآثارية التي تعتبر جزءاً من ذاكرة البشرية وإنجازاتها العظيمة عبر تاريخها الطويل، هدف للهمجية والغوغائية، إنه صراع بين قوة الحق وحق القوة.
إنتضوا صارماً وادعوا باطلاً… وقالوا: صدقنا، فقلنا: نعم!
الطرفان، أو الأطراف المتقاتلة، آتية من مضارب الاستبداد السياسي والديني. شرعيتهما الوحيدة الغلبة أو القوة. الحروب المسعرة في المنطقة العربية تخوضها مالكة الشرعية الثورية المائتة، أو القوى السياسية الآتية من شرعية التمكين الإلهي، أو صاحبة الحق الإلهي (آل البيت)، أو الوراثون المؤبدون، أو أحزاب سياسية يسارية أو يمينية تراهن على فوهة البندقية، وكلها، وهي في حمى التقاتل، لا تريد انتصار ثورة الربيع العربي التي بشرت بالحياة المدنية الآمنة والمستقرة، وبالتحديث والتجديد واحترام حقوق الإنسان، والخلاص وإلى الأبد من سيطرة القوة والعنف والإرهاب بمختلف الصور والأشكال.
المحاربون الأشاوس إما حاكمون بالقوة أو مهووسون بالسلطة، ولا يستطيعون الوصول إليها إلا عبر الدبابة أو القتل.
منذ القرن الماضي، بدأت الانقلابات العسكرية، وازدهرت حروب التحرير الوطنية في القارات الثلاث: آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية. عبرت حروب التحرير الوطنية والانقلابات العسكرية عن إرادات شعوب وأمم هذه القارات عن طموح هذه الشعوب في التحرير والاستقلال، واستعادة الكرامة القومية، والخلاص من الاستعمار والاستبداد، وكانت في جانب آخر تعبيراً عن خيبة الأمل في النضالات السلمية والديمقراطية التي حولها الاستعماريون إلى لعبة إلهاء؛ لتغييب المطلب الأول في التحرر والاستقلال، أو الخلاص من فساد الأنظمة واستبدادها.