لا شك أن القرار الجمهوري الذي أصدره الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، مساء الخميس 27 أبريل الجاري، والقاضي بإقالة محافظ عدن، اللواء عيدروس قاسم الزبيدي، وعدد من الوزراء الجنوبيين في حكومة هادي، منهم الوزير هاني بن بريك، الذي نص قرار الإقالة نفسه على إحالته إلى التحقيق، سيرش الملح على الجرح الجنوبي الملتهب أصلاً، وسيعمّق من هوة الخلاف الحاصل بين الحراك الجنوبي والسلطة الموالية لهادي (الشرعية)، بل وسيفتح – إن لم يكن قد فتح أصلاً – على هادي وعلى شركاء الجنوب في هذه الحرب أبواب جهنم من المتاعب والصراع، وسيزيد من نسبة التوجس والريبة لدى النخب والشارع الجنوبي إزاء موقف دول «التحالف»، وبالذات الموقف السعودي الداعم بالمال والسلاح والمؤيد على طول الخط منذ عامين لكل الخطوات التي يقوم بها هذا الحزب «الإخواني» (المشارك بقوة في حرب 94م على الجنوب)، وبالذات خطواته المتعلقة بالشأن الجنوبي والتي تتصف بالخصومة والعداء، وتُعدّ استهدافاً لكل رموز الثورة الجنوبية المشاركة في السلطات المحلية، وخطواتها الرامية إلى استعادة الأوضاع في الجنوب على ما كانت عليه قبل مارس 2015م وبالأخص الأمنية. بل وقد يلقي هذا القرار بظلاله الكئيبة على سير المعارك في الساحل الغربي اليمني.
لا يخالج كاتب هذه السطور أدنى شك في حقيقة أن قرار الرئيس هادي آنف الذكر هو قرار حزبي «إصلاحي» مثله مثل قرارات سابقة مماثلة، ولم يكن هادي وبصفته الرئيس المعترف به دولياً كرئيس شرعي في نظر «الإصلاح» إلا جسر عبور إلى الضفة الأخرى لنهر المصالح، وخلف هؤلاء أي «الإصلاح» وهادي تقف الرغبة والمصلحة السعوديتان، وتحرك المملكة بشكل مباشر أو غير مباشر من خلف الحجب. الرغبة الإصلاحية والسعودية من وراء الدفع بهادي ليتخذ قراره الأخير لم يأتِ منفصلاً عن الصراع السعودي الإماراتي، الذي لا شك قد طفى على السطح في الأشهر الأخيرة. خلاف مبعثه الرغبة الإستحواذية والهيمنة على الأراضي الجنوبية بمساحاتها الشاسعة وموانئها وثرواتها ومنافذها، والتي أضحت خالية تقريباً من أي قوة عسكرية شمالية فعالة وقوى سياسية حزبية شمالية وحتى جنوبية، وإن وجدت هذه الأخيرة فهي مسلوبة الإرادة مكبلة الأقدام بنخب يسيل لعابها بغزارة أمام بريق ذهب سلمان، وهلعها من سيفه! ولكن لا نعتقد أن هذا الخلاف الخليجي الخليجي في اليمن سيذهب بعيداً، فلن يتردد أحدهما في التضحية بحليفه اليمني حفاظاً على العلاقات التاريخية بين البلدين، والتي لا شك ضاربة جذورها بقوة. نقول هذا حتى لا يراهن جنوبي على سراب بقيعة.
ومن أهمية القول هنا أن نؤكد أن الرئيس هادي والسعودية وحزب «الإصلاح» لم يتخذوا قراراتهم الإستفزازية منذ عامين في الشأن الجنوبي إلا حين وجدوا الصف الجنوبي مفكك الأوصال، واهن القوى، مشتت التفكير، بعد أن انصرف كثير من قياداته للبحث عن المصالح الذاتية على أبواب أمراء النفط وعتباتهم، والبعض آثر السكينة والصمت تحت سوط الترهيب. وبعد عامين من تخليها عن مكامن قوتها ونقاط هيبتها، وإلقائها بكل أسلحتها، وتكسـيرها مجاديفها وهي ما تزال وسط العاصفة ظناً منها أنه بمجرد منصب وهمي يتم التصدق عليها من قِبل سلطة دأبت على تسميتها بسلطة الإحتلال، فإن دولة الجنوب أصبحت تحت طربوش جندي في نقطة جولة كالتكس، وقبلت على نفسها أن تكون تابعاً وملحقاً وذيلاً ذليلاً بمؤخرة قوى هي أقل منها شأناً، ولا تمتلك قضية غير قضية استعادة سلطة مسلوبة… لقد ذلّ مَـن بالتْ عليه الثعالبُ.
سيستمر هؤلاء (السعودية والاصلاح وهادي) في اتخاذ قراراتهم الكارثية حيال الجنوب حتى نهاية مطاف مشروعهم ومخططهم التمزيقي في الجنوب واليمن عموماً. وهذا النهج لا أظنه يأتي منفصلاً عن مخطط ومشروع القوى الدولية الكبرى، مشروع الشرق الأوسط الجديد المزعوم. هادي وحزب «الإصلاح» ومن خلفهما السعودية، وهم يتخذون مثل هكذا قرارات، فإن عيونهم جاحظة على الجنوب لتمرير مشروع مخرجات حوار صنعاء الذي استبعد الجنوب كلياً منه، والتي ترتكز على فكرة الدولة الإتحادية من ستة أقاليم ليتم قصم الجنوب نصفين: إقليم عدن وإقليم حضرموت.
قد يكون التمكن من المؤسسات، ولو بقبول مناصب من سلطة شرعية هادي، البوابة التي سيستعيد الجنوب دولته من خلالها، ولكن هذا لن يتأتى إلا بالابقاء على وهج الثورة الجنوبية، وبالاحتفاظ بكل الأسلحة العسكرية والثورية والسلمية والجماهيرية والفكرية وغيرها. فبالإضافة إلى سبب كمية الخلافات التي تراكمت منذ عامين بين الثورة الجنوبية من جهة وسلطة الرئيس هادي وحزب «الإصلاح» والسعودية من جهة أخرى، فإن من أبرز الأسباب الأخرى لقرار إقالة محافظ عدن هو رغبة هؤلاء بالسير قُدماً في إعلان إقليم عدن بعد أيام ليشمل عدن ولحج والضالع. وتجد بالتالي محافظة شبوة التي رفض مؤتمر حضرموت ضمها هي ومحافظات المهرة وسقطرى إلى ما سماه بإقليم حضرموت (حضرموت التاريخية) لزاماً عليها أن تبحث لنفسها عن جيل يعصمها، وتفرض نفسها كجزء من إقليم حضرموت، لتكون بالأخير السعودية وحزب «الإصلاح» والرئيس هادي قد انتهت من المرحلة الأولى والحاسمة من مشروع الأقلمة، ولم يبق أمامها إلا محافظات شمال الشمال التي يمكن تركيعها عسكرياً واقتصادياً وطائفياً بقبول المشروع التقسيمي (دولة الستة أقاليم). وفي حال صممت حضرموت ومحافظها، أحمد سعيد بن بريك، على رأيهم باستبعاد المحافظات الثلاث وشبوة بالذات من إقليمهم المعلن، فإن جسد بن بريك سيطير من على كرسي منصبه، هو وكل من يرى الساطور السعودي ضرورة ذبحه، وحينها سيُعقر الثور الأسود كما عقر قبله الثور الأبيض.
قد يقول قائل: طالما أن الحراك الجنوبي، وبالذات قياداته التي تشغل مناصب في السلطة المحلية والأمنية، هو حليف لدولة الإمارات، فلماذا لا تحرك الإمارات ساكناً إزاء ما يتعرض له من استبعاد وإقصاء وتحجيم؟ الإجابة ببساطة أن دولة الإمارات لن تجازف بعلاقتها التاريخية والمصيرية مع دولة جارة كبرى ومحورية كالمملكة العربية السعودية مقابل مناصب قيادات حراك الجنوب اليمني، بل ولن تجازف بذلك حتى لو ظفرت مقابل ذلك بالجنوب بقضه وقضيضه. فموقف الإمارات مع شركائها في اليمن شبيه بموقف روسيا مع حليفهتا سوريا، فروسيا وبرغم متانة العلاقة مع دمشق إلا أنها لم تضح بمصالحها وعلاقتها بتركيا حين أسقطت هذه الأخيرة طائرة روسية قبل أكثر من عام، ولم تهدد موسكو مجرد تهديد بالحرب مع أمريكا حين قصفت واشطن قاعدة سورية بصواريخ «توماهوك» من عرض البحر الأبيض، مع أن تلك الواقعة مثلت لروسيا إهانة بالغة بكبريائها العسكري.
فالمصالح هي التي تحدد، والكلمة العليا لها في كل موقف وحالة، وليس العواطف، ولا منطق المجاملة ولا «خزعبلة رد الجميل»، ولا من أجل خاطر من رفع صورة في شارع، أو عبارة تملق تكتب بجدار مدرسة. فالإمارات مثلها مثل باقي دول العالم التي تضع مصالح شعبها برأس قائمة سياستها، وبالتالي فأي رهان جنوبي يقتصر على الدور الإماراتي أو على غير الإماراتي هو رهان على حمار أعرج. فالرهان على الخارج على أهميته لا يكون من غير التعويل على قوة الذات وعدالة القضية. فالإمارات وغيرها من دول «التحالف» لم تقل خلال عامين إنها أتت لتحرير الجنوب من الشمال واستعادة دولته السابقة، كل ما في الأمر أن أصواتاً جنوبية هي التي تقوّل الإمارات ما لم تقله. فالإمارات العربية المتحدة أتت إلى اليمن وإلى الجنوب تحديداً وعينها جاحظة بقوة على ميناء عدن، الذي تم إخراجها منه قبل عامين من هذه الحرب (شركة مواني دبي)، كما وعينها جاحظة أيضاً وبقوة على ثروة وموقع حضرموت الجغرافي، وعلى طبيعة وسحر جزيرة سقطرى الخلابة.
لم يبق إلا القول إن ثمة فائدة كبيرة من قرار الرئيس هادي الأخير قد كسبها الجنوب، وهي إيقاظ نخبه من غيبوتها، وجعلها تدرك مدى سذاجة سياستها المسكونة بالشعور تجاه الخلجيين بالدونية. فبعد أقل من 24 ساعة، كانت ساحة مدينة المعلا في عدن وعدد من محافظات الجنوب ممتلئة على الآخر بالجماهير الجنوبية الغفيرة، وهي تهتف بالشعارات الجنوبية التحررية التي تم تغييبها بشكل غبي خلال عامين