هذا التوقيت لا يمكن أن يكون عفوياً ، إذ أن تصريح ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي وحديثه من واشنطن بأن الولايات المتحدة باتت “راضية” عن الجهود التي تبذلها قطر ، مطالباْ خصومها برفع الحصار البري عنها ، مثل توقيتاً متفقاً عليه ، ويشبه إلى حد كبير “كلمة السر” لخروج أمير دولة قطر متشدداً وظافراً بكل ما قامت به حكومته ، وإلقاء أول خطاب له منذ نشوب الأزمة الخليجية في الخامس من حزيران/يونيو الماضي.
حين أعلنت “السعودية والإمارات ومصر والبحرين” بصورة مفاجئة قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وإلغاء مشاركة الأخيرة في التحالف العربي الذي يخوض حرباً في اليمن ، وإغلاق المنافذ البرية والبحرية معها ، ومنع الطائرات القطرية من التحليق عبر أجواء هذه الدول . ما أسفر عن إجراءاتها اندلاع أزمة غير مسبوقة تسببت بانشقاق مفاجئ في صفوف العرب وألحقت ضرراً فادحاً بمنظومة “مجلس التعاون الخليجي” آخر تكتل عربي ظل محافظاً على تماسكه في المنطقة ، وكانت الأزمة الخليجية التي استمرت في تصعيد حدة الخصومة دون سقف ، قد قطعت كل الأوتار الواصلة بين دول المجلس وربما تسببت بانهياره على نحو غير قابل للعودة.
من غير الممكن فهم إفشال الوساطات الدولية خارج سياق الأداء الذي عملت به الولايات المتحدة في إدارتها للأزمة الخليجية ، حيث ظلت تمارس ضغوطها من تحت الطاولة وتدفع بحلقات الأزمة وأطرافها إلى التعنت ورفض الحلول الوسطى ، وهو ما جعل من السهل استثمارها للأزمة وشحن الأطرف بطريقة عملت على استنزاف ثروات الخليج بأسلوب بارع ومكشوف ، وبالتالي نجحت مساعي الولايات المتحدة في إيصال كل محاولات التقارب إلى طريق مسدود ، وبدلاً من السعي للحصول على موافقة الأطراف على الانخراط في اتفاق ملزم ينهي أوجه الصراع المتزايد بينها ، اتجهت الولايات لإبرام صفقات مباشرة مع الدوحة ، أبرزها صفقة الطائرات العسكرية بقيمة 12 مليار دولار ، كما أن توقيع مذكرة تفاهم “مكافحة الإرهاب ومنع تمويله” مثلت صفعة مدوية لخصوم قطر ، وهو تطور جاء بمثابة “صب الزيت على النار” ولم يكن البتة خطوة في طريق الحل الشامل للأزمة الخليجية ، ويرى مراقبون أن إقدام تيلرسون وزير الخارجية الأمريكية لتوقيع مذكرة تفاهم بذلك الحجم مع نظيره القطري الشيخ محمد آل ثاني لم تكن مجانية بل مدفوعة الثمن “وربما ثمن باهض الكلفة” كونها خطوة قطعت الطريق أمام خصومها الذين يتهمونها بتمويل الإرهاب ومساعدة وإيواء الإرهابيين وبعض منظماتهم ، وهو ما نفته الدوحة نفياً قاطعاً وجاء هذا التوقيع رداً عملياً بمثابة طوق النجاة للدوحة ، وبمساعدة أمريكية ، ليس من قبيل فعل الخير وإنما بمقابل تم تحصيل شيكاته مقدماً وبعيداً عن أطراف الأزمة.
الآن الولايات المتحدة تذهب بالأزمة الخليجية إلى دائرة التسخين والمناورة العلنية ، هذا التحرك المتسق بين الولايات المتحدة وقطر، أتى متزامناً مع نشر التقرير الخاص بجهود دول العالم في مكافحة الإرهاب 2016، وهو تقرير سنوي تنشره الخارجية الأمريكية ويحمل معطيات مفصلة عن جهود الدول وتقييم إجراءاتها في مكافحة الإرهاب خاصة في مناطق التوتر ، إذ اعتبر تقريرها “قطر” إحدى الدول التي حققت تقدماً كبيراً في مواجهة تمويل الإرهاب وتعتبرها ملتزمة إلى حد كبير بالتوصيات ، فيما رأت الخارجية الأمريكية في تقريرها ان المملكة العربية السعودية رغم جهودها في مواجهة تمويل الإرهاب ، إلا أنه على الأرجح أن بعض الأفراد والكيانات يواصلون استخدام السعودية كمصدر لتقديم الدعم المالي لجماعات إرهابية ، فيما تقول الخارجية الأمريكية أن الإمارات تظل مركزاً إقليمياً وعالمياً يستغله الأفراد والمنظمات الإرهابية للمال والنقل واستقبال الدعم المادي .
يتفق المراقبون أن التهم الموجهة لدولة قطر هي تهم يتورط فيها خصومها ، غير أن “السعودية والإمارات ومعها مصر والبحرين” احتفظوا بموقف متمسك بالمطالب الـ13 دون امتلاك خطط بديلة تمكنها من مجابهة أي تصعيد متوقع تنحاز إليه الولايات الماحدة كما هو حاصل الآن ، كون الخطوات التي قامت بها الدوحة تمت بمساندة أمريكية خالصة ، فأنقرة التي أرسلت دفعتها السابعة من المعدات والآليات العسكرية والجنود الأتراك كانت بتنسيق مشترك مع واشنطن ، كما أن تنفيذ بريطانيا لمناورة عسكرية مع القوات البحرية الأميرية القطرية جاء وفق ترتيبات مسبقة مع واشنطن ، وينطبق ذلك على التحركات الفرنسية والألمانية .
أستمرت الولايات المتحدة في مواصلة لعب أدوار التناقض في الأزمة الخليجية تباينت بين تصريحات ترامب والبيت الابيض من جهة والخارجية والدفاع من جهة ثانية ، كما أن الولايات المتحدة ظلت تتحكم بتحريك مساراتها على نحو مريح ، وتتنقل بين الإمارات الخليجية وفق نقلات مدروسة ومتتالية .
في وقت سابق تقدم الشيخ محمد آل ثاني وزير خارجية قطر بطلب لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي الـFBI للمشاركة في التحقيقات التي تجريها حول اختراق وكالتها الرسمية “قنا” ، وجاء تقرير صحيفة Washington Post ، بعنوان “الإمارات العربية المتحدة مسؤولة عن الأزمة” ، مغايراً تماماً للتوقعات والتقديرات الأمريكية السابقة التي ذهبت إلى أن قراصنة روس يقفون وراء عملية الاختراق ،
التقرير الذي نقل عن مسؤولين في الاستخبارات الأمريكية أكد مسؤلية الإمارات عن اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية “قنا” ؛ لنشر أخبار مفبركة نسبت لأمير قطر ما أثار أزمة بين قطر ودول الخليج ، وهو الأمر الذي يفسر إبقاء التوترات التي استمر ترامب يوقد لها نيران الحرب ، ويتسنى للولايات المتحدة الأمريكية ترويض ممالك الخليج وتحقيق مكاسب وأرباح مفتوحة ، والتحكم في مسارات الأزمة والانتقال بخطوط المواجهة صوب الإمارات باعتبارها هدفا جديدا ومشتري مغري للأسلحة الأمريكية ، وعلى الإمارات أن تدخل مزاد ترامب كخيار وطريق وحيد تبقى على “أبوظبي” أن تسلكه وتدفع الجزية بصمت أسوة بما فعلت “الدوحة”.
يقوم ترامب وتيلرسون ورجال الاستخبارات الأمريكية بعمل جيد لصالح الولايات المتحدة ، فيما الدوحة والرياض وأبوظبي حلفاء عميقون جداً لواشنطن ، وتوجب عليهم الآن أن يدفعوا للخزانة الأمريكية لقاء حمايتهم كما وعد السيد ترامب الرئيس المثير للجدل.