الإثنين, 18 نوفمبر, 2024

العيد عيد الكوليرا

| بقلم:لطف الصراري|

صورة العيد عيد الكوليرا

إعتاد اليمنيون ترديد عبارة «العيد عيد العافية» لتخفيف سخطهم وغبنهم من تزامن الأعياد الدينية مع ندرة المال، لكنهم في عيد الفطر المنصرم لم يجدوا المال ولا العافية.
خلال إجازة العيد، عاش سكان خمس محافظات على الأقل، رعباً شديد الوطأة من الكوليرا، لا سيما سكان الأرياف.

آخر إحصائية لوفيات وباء الكوليرا تخطت الرقم 1400 الأسبوع الماضي. وهذا يعني أن آخر مائة ضحية ماتوا خلال مدة لا تتجاوز الأسبوع منذ تم الإعلان عن تجاوز الرقم 1300. إنها مجرد أرقام تتكاثر في جداول الإحصائيات، لكن كل رقم يمثّل كارثة على الأسرة التي تعود بمصابها محمولاً على نعش. إضافة لذلك، تنخر هذه الجرثومة الخبيثة كل أمل لدى المصاب وذويه بشفائه، فقط تسليم بـ«مقادير الله»، ومن ينجو «كُتب له عمر جديد» بكل ما تنطوي عليه هذه العبارة من معنى عجائبي.

رغم وجود مراكز معالجة متخصصة، إلا أن ذلك ليس كافياً لتخفيف رعب انتشار المرض في ظل تضاعف أعداد المصابين. هذا الرعب الذي ما زال جاثماً على رقابهم لن تخففه إحصائية منظمة الصحة العالمية بأن نسبة الوفيات تراجعت من 1.7% إلى 0.6%. الناس المحتاجون للطمأنة والوقاية والعلاج، لن ينظروا إلى انخفاض النسبة تحت 1%، بل إلى أنها اقتربت من 2% حين كان الوباء في بداية انتشاره.

ذلك أن من يصلون مراكز المعالجة، سواء جراء إصابة أو لإسعاف مصاب، سوف يفتك بهم الهلع وهم يرون جيرانهم ومعارفهم الذين تركوهم بصحة جيدة قبل ساعات، يلحقون بهم إلى المستشفى وقد تمكنت منهم الجرثومة القاتلة. القاتل الذي لا يمهل بعض الحالات حتى للوصول إلى هذه المراكز.

يحدث ذلك كل يوم في مراكز معالجة الكوليرا، وفي المركز المقام في المستشفى الحكومي لمدينة القاعدة، تعالت صرخات الفجيعة من حنجرة أم فقدت ابنتها الوحيدة بعد حوالي ساعة من إيصالها إلى المستشفى. كان ذلك صباح اليوم التالي لعيد الفطر، وعندما خرجت إلى الباحة الصغيرة للمستشفى، كان عويلها يرعب الشمس والبشر، ولم يتمالك أبوها نفسه من العويل أيضاً بصوت مرتفع. ترى كم كان رقم هذه الفتاة العشرينية في جدول الإحصائيات؟! بعيداً عن إحصاء الموتى، كان وراء موت هذه الفتاة قصة مؤلمة.

بدأت تعاني أعراض الكوليرا عصر يوم العيد، فاستأجر أبوها سيارة لإسعافها مع حلول المساء. بعد ساعات قليلة، وفي إحدى الطرق الفرعية لمنطقة الجعاشن «بنشرت» السيارة. ولأنه يوم عيد، تكالبت العراقيل أمام إصلاح الإطار المثقوب، وأمام سيارة الـ«هايلوكس» القديمة. في تلك اللحظات، كان الليل والطريق المقفر يمنحان الكوليرا قوة إضافية للفتك بالفتاة – وحيدة أبويها. الأبوان اللذان سرعان ما تناقلت النساء والرجال في باحة المستشفى قصة إسعاف ابنتهما، وقصتهما مع فقدان الأولاد. كانت أسرع حالة وفاة في هذا المركز، ورجح البعض أنها ربما كانت قد فارقت الحياة قبل وصولها فجر يوم الإثنين.
رفعت الأم رأسها نحو السماء وجأرت بصوت الفجيعة: ما الذي فعلته بنا يا رب؟ واستغفر الرجال والنساء

نيابة عن الأم المكلومة، وتداولوا بتكرار أنه سبق أن فقدت خمسة أولاد.
أثارت حالة الوفاة هذه نوبات حزن وسخط لدى مرافقي المرضى، بما في ذلك نوبة الشتم غير المفهومة لدى عاملة نظافة في قسم آخر من المستشفى. شتمت جميع العاملين في مركز المعالجة، لكنها كثفت الشتيمة على المشرفين الأجانب التابعين لمنظمة «اليونيسف». أولئك الأطباء والمشرفون والعامون الذين ينقذون مئات المصابين يومياً، ويتعاملون برحابة مع انفعالات أقارب المصابين والمتعاطفين تجاه حالات الوفاة، حتى مع أولئك الذين يحملونهم مسؤولية الوفاة.

في فورة عويل هذين الأبوين، كان الحزن والخيبة يذرعان وجه السائق الذي انزوى للجلوس برأس مطأطئ على رصيف الباحة الصغيرة. كان ينظر إلى سيارته الـ«هايلوكس» المتهالكة، كما لو أنه يحملها مسؤولية موت الفتاة. آخرون ألقوا باللائمة على التلوث الذي يجرفه المطر إلى مصادر المياه والغذاء، أو جراء إطلاق صواريخ وقذائف «محرمة دولياً» في الحرب التي لا يعرفون مداها، وهناك بالطبع من يلوم المصابين أنفسهم لعدم اهتمامهم بالنظافة الشخصية، والتغذية الصحية… إلخ. غير أن كل الأسباب المعقولة والمبالغ بها، يختصرها وصف ستيفن أوبراين، وكيل الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، بأن هذا الوباء هو «كارثة من صنع الإنسان». وهذا «الإنسان» الكارثي يتمثل في «الأطراف المتحاربة وداعميها الدوليين».
أن تصل نسبة الوفيات من بين المصابين إلى ما يقارب 2% خلال أقل من شهرين، وفي ظل التحذيرات المستمرة من أن الوضع الصحي في اليمن يتدهور بسرعة مخيفة، فمعنى ذلك أن الجرثومة المسمّاة مخبرياً «ضمّة الكوليرا»، سوف تضمّ بحلول نهاية العام 2017 ما لا يقل عن ستة آلاف ضحية إلى جداول الإحصائيات.

هذا في حال بقيت وتيرة انتشار الوباء كما هي حالياً. أية جرثومة هذه التي تنافس الأسلحة النووية في إبادة البشر، وتحولهم إلى مجرد أرقام في سجلات المنظمات الدولية، إلى قصص مأساوية يتضاءل فيها الفرق بين الحقيقة والخيال.

خليك معنا

آخر الأخبار

مرحبا بعودتك!

تسجيل الدخول إلى حسابك أدناه

استرداد كلمة المرور

الرجاء إدخال اسم المستخدم أو عنوان البريد الإلكتروني لإعادة تعيين كلمة المرور الخاصة بك.

أضف قائمة تشغيل جديدة