الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
لا يزال الحديث عن نشوء الحضارة القديمة في جنوب شبة الجزيرة العربية وآثارها المعمارية وتنوع أنماط بنائها، موضوع يثير التساؤلات واختلاف الرأي لدى البعض بين مدة وأخرى، فقد انتشرت في منتصف القرن العشرين آراء تقول إن التنوع الحضاري في جنوب شبة الجزيرة العربية وعمارتها نتاج حضارات أقوام جاؤوا إليها من بلاد الرافدين وبلاد الشام ووادي النيل، ونقلوا تطورهم الحضاري والمعماري معهم، وساعدت آراء بعض الباحثين الأجانب في توسيع هذا المفهوم وانتشاره.
على الرغم من أن هذه النظريات قد تغيرت من خلال الاكتشافات الأثرية التي تمت في الربع الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، من خلال الدراسات التي قامت بها بعض البعثات العلمية، وعدد من آثاريي الجيل الجديد من أبناء اليمن، الذين حملوا على عاتقهم ضرورة دراسة تراثهم بشكل علمي يضمن توصيله إلى الآخرين بمصداقية، إلا أنها لا تزال تثار بين الحين والآخر.
ولو افترضنا جدلاً أن عمارة مدن ممالك جنوب شبة الجزيرة العربية (أوسان، وسبأ، ومعين، وقتبان، وحضرموت) نتاج حضارات أقوام جاؤوا إليها، فمن المفترض أن تكون عمارة هذه المدن عمارة دخيلة على المنطقة، ليس لها أي مثيل سابق، وأن يكون تخطيطها مشابه للمدن التي تم الاقتباس منها، فضلاً عن تقنية بناء مبانيها تكون هي نفس تقنية بناء مباني تلك المدن، إلا أن الشواهد الأثرية التي تم العثور عليها تؤكد غير ذلك، فعمارة مدن ممالك جنوب شبة الجزيرة العربية امتداد لعمارة محلية سابقة أقل تطورًا منها نشأت في جنوب شبة الجزيرة العربية، عمارة لها خصائصها المميزة في تخطيط مدنها وتقنيات بناء مساكنها الخاصة التي تميزه عن غيرها من المباني، وسوف نستعرض هنا البدايات الأولى للنشوء عمارة جنوب شبة الجزيرة العربية واستمراريتها لتأكيد أصالتها، وفي موضوع لاحق – إن شاء الله – سوف نستعرض تخطيط المدن وتقنيات البناء التي تؤكد أصالة هذه العمارة.
نشوء العمارة في جنوب شبة الجزيرة العربية:
إن الشواهد الأثرية لعمارة جنوب شبة الجزيرة العربية القديمة التي نشاهد آثارها اليوم في مختلف المناطق، ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج مخاض طويل لتجارب معمارية تمتد جذورها في عمق التاريخ منذُ العصور الحجرية الأولى؛ إذ وجدت كثير من المواقع التي تعود إلى العصور الحجرية (القديمة، الوسطى) في مختلف مناطق جنوب شبة الجزيرة العربية، وأن هذه المستوطنات المستقرة الأولى التي ظهر فيه أول أنواع الاستقرار الدائم، قد نشأت بفعل ظروف مناخية معينة تمثلت في زيادة رطوبة الرياح الموسمية، ومعرفة الإنسان القديم بمواسم الأمطار وأهميتها في حياته، واكتشافه لطرق زراعة الأرض وتربية الحيوانات، فضلاً عن أن السكان قد عرفوا أهمية الموقع للاستيطان، أي ما عرف بإستراتيجية الموقع، (ايدينز، وويلكنسون، 2001م، ص1)، وفي هذه التجمعات ظهرت أول أشكال العمارة من الألف السادس إلى الألف الثالث قبل الميلاد (deMaigret,2002,P123 ؛ Fedele,1988,P34-37)؛ إذ اعتمد الإنسان القديم في بناء مسكنه على البيئة المحيطة به واستخدم المواد الأولية المتوفرة في المنطقة التي يتواجد فيها لبناء تلك المساكن، وقد اكتشفت بقايا منشآت سكنية في مناطق النجد الأبيض ووادي الطيالة ومنطقة قاع جهران ووادي الفارهة ومتاش ونجد جبر في وادي الجوبة وخربة الجبر وخربة السد في منطقة البيضاء ومنطقة وادي ضهر بالقرب من صنعاء وموقع السبال وموقع البليد شرق ذمار التي استخدمت الحجارة في بناء أسس المساكن.
إلا أن المستوطنات البشرية الكبيرة المستقرة التي وجدت فيها أقدم الأنماط المعمارية، نشأت في العصر الحجري الحديث؛ إذ عثر على عدد من المواقع تتميز بالمنشآت المعزولة ذات الشكل البيضاوي في وادي العش أَو(العشش) في المنطقة الواقعة شرق طريق صنعاء – ذمار، كما وجدت مواقع أخرى في صرم العبيدلية وجبل شاعر والنجد الأبيض وفي منطقة جبل أعماس ووادي الطيال (أنظر شكل 1)، فضلاً عن مواقع وجدت في جدنت العمرة وبني صليح وضلع الأعماس وجبل العرقوب وقرب منطقة يلا (الدريب) إلى الشرق من أسفل التل وجبل القطران غرباً في منطقة قاع جهران شمال معبر(ديمجرية، 1986م، ص 2-3)، ومستوطنات وادي يناعم والنجد الأبيض والرقلة التي تتكون من وحدات تخطيطية دائرية الشكل تشير إلى تجزئة المجتمع في مجموعات أسرية مستقلة، تشكل كل أسرة مستوطنة منفصلة خاصة بها كما في (مستوطنة النجد الأبيض 5 ومستوطنة النجد الأبيض7)، أي إن التجمعات الصغيرة كانت قائمة على مستوى الأسرة فقط (ديمجرية، 1990م، ص 137) (أنظر شكل 2)، كما وجدت مستوطنات أخرى تظهر تخطيطاً تنظيمياً أكثر تعقيداً، وذا وحدات سكنية متعددة، تتألف الوحدة السكنية من (3 – 4 مساكن) نظمت حول ساحة مركزية مشتركة وجدت فيها آثار لمواقد وحفر طبخ وحجارة طحن، وغالباً يوجد في كل وحدة سكنية مسكناً بارزاً وظاهر التفوق عن المساكن الأخرى، من خلال بعض الملامح المميزة مثل الوضعية المهيمنة، مدخل بارز واضح المعالم وعدد أكبر من الملاحق الإضافية، مثل مواقع (المسنة1، وادي يناعم1، وادي الطيال 5، الرقلة1)، مما يشير إلى تجمعات ذات مستوى عالٍ من التنظيم الاجتماعي، وذات وحدات أسرية مختلفة تعيش قرب بعضها البعض على الرغم من أنها لاتزال منتظمة في مواضع مستقلة، وقد بينت القياسات المساحية بأن شكل تلك المخططات السكنية هام جداً، حيث نظمت المساكن في شكل دائرة تشرف واجهاتها الأمامية على ساحة داخلية تستخدم للنشاطات المختلفة لساكني المستوطنة، بينما تشكل الجدران الخارجية للمساكن سور لحماية المستوطنة، وتُعدَّ هذه الطريقة أول أشكال التسوير التي عرفها الإنسان في جنوب غرب الجزيرة العربية قديماً (انظر الشكل 3). ولوحظ في عدد من هذه الوحدات بأن أجزاء معينه منها تبدو مشيرة إلى حدوث تغيير في النظام التخطيطي للوحدة السكنية ليتخذ شكلاً جديداً وفقاً لتصميم يفتح تلك الدوائر المغلقة ويشوه نظامها، متجهاً بكل وضوح نحو نوع من التكامل الوحدوي للمنطقة السكنية (ديمجرية، 1990م، ص 138) ، ثم حدث تطور خلال العصر البرونزي، وذلك من خلال اكتشاف الفخار واستخداماته المتعددة، حيث ساهم هذا الاكتشاف على تعزيز الاستقرار، وأصبحت المستوطنات تغطي مساحات أكبر تتراوح بين 5-7 هكتار وتميزت بوجود درجة من التنظيم الاجتماعي، ومن هذا المستوطنات السبال وحمة القاع (انظر شكل 4) في المرتفعات ومستوطنة شعب منيدر في حضرموت ومستوطنة صبر على ساحل البحر الأحمر.
ومن الربع الثالث للألف الثاني قبل الميلاد إلى بداية الألف الأول قبل الميلاد أصبحت المستوطنات تشتمل على مجموعات واسعة من المساكن تغطي مساحة 15 – 20 هكتار (150000 – 200000متر مربع) ومن هذه المستوطنات مستوطنة أشرف (DS 15) التي تقع على ممر جول العجمر، حوالي واحد كيلومتر غرب وادي دفينة (Wilknson, Edens and Gibson, 1997, P11)، وتمتد على مساحة واسعة، تحتوي على أسس حجرية كثيرة التعرية لمساكن متفرقة مستقيمة التخطيط، ومستوطنة عرن عمر (DS 82) التي تقع على بعد واحد كيلومتر شرق قرية باب الفلاك،شمال طريق ذمار– رداع، على هضبة بركانية تشرف على السهول، وتمتد على مسافة (800× 300 متر) وتحتوي على عدد من التلال يظهر فيها أحجار كبيرة أسس جدران حجرية كانت أطلال مساكن غطتها الحقول الزراعية الحديثة.
وخلال الفترة التاريخية التي تبدأ مع بداية الألف الأول قبل الميلاد تطورت هذه المستوطنات وبدأت في التجمع وتوحيد قواها ودخلت في حروب مع بعضها البعض لمد نفوذها وفرض سيطرتها على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي، أدت تلك التجمعات إلى ظهور ممالك جنوب شبة الجزيرة العربية القديمة التي اتخذت من التحالفات القبلية نواة لظهورها، وإن العدد الكبير لمدن تلك الممالك ظهرت منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد إلى منتصف الألف الأول الميلادي، ويعد هذا شاهداً على التطور المعماري الكبير الذي وصلت إليه مدن ممالك جنوب شبة الجزيرة العربية في تلك الحقبة من تاريخها.
خليك معناالمصدر: ملتقى المؤرخين اليمنيين