الصباح اليمني_مساحة حرة|
للمرة الثالثة خلال أقل من 3 سنوات، يجد القطاع الصحي في سوريا نفسه في مواجهة أزمة مفاجئة ذات أبعاد صحية تهدد حياة آلاف السوريين المنهكين اقتصادياً واجتماعياً وصحياً بفعل سنوات الأزمة الطويلة.
في المرة الأولى، كان انتشار فيروس “كوفيد 19” مع بدايات العام 2020، الذي حصد أرواح آلاف السوريين، ولا يزال، وإن بنسبة أقل من السابق. أما المرة الثانية، فكانت العام الماضي مع ظهور مئات الإصابات بوباء الكوليرا، والمخاوف لا تزال قائمة من انتشار أوبئة أخرى بتأثير الأوضاع العامة التي تعيشها البلاد على مختلف المستويات.
المرة الثالثة بدأت في صبيحة السادس من شهر شباط/فبراير الماضي، عندما استيقظ السوريون على زلزال مدمر أودى بحياة ما يصل إلى 6 آلاف شخص على امتداد الجغرافيا الوطنية، وإصابة آلاف الأسر وتشريدها، فيما تتوقع وكالات الأمم المتحدة أن تطال تأثيرات الزلزال أكثر من 8.8 ملايين شخص.
في أزمتين على الأقل، دفع القطاع الصحي ثمناً باهظاً بخسارته حياة الكثير من المنتسبين إليه. وقد تمكّن، رغم الإمكانيات المحدودة والبنية التحتية المتضرّرة، من المحافظة على الحد الأدنى من تقديم الرعاية والعلاج لملايين السوريين.
وإلى جانب الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بالمنظومة الصحية نتيجة الأزمة، فإن العقوبات الغربية عمّقت أيضاً جراح هذا القطاع ونزيفه المباشر الذي اتضح مع مواجهة الأزمات المشار إليها أعلاه.
نظام متعب ومنهك
يمكن تتبع تأثيرات الأزمة في القطاع الصحي من خلال توزيع الأضرار الحاصلة على خانتين:
الأولى تمثّل الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للقطاع الصحي من مستشفيات ومراكز صحية وسيارات إسعاف وتجهيزات وغير ذلك. وبحسب البيانات الرسمية، فقد أدت الأزمة لغاية عام 2020 إلى تخريب 110 وحدات صحية بشكل كامل من أصل 1864 وحدة صحية تابعة لوزارة الصحة، بنسبة قدرها 5.9%، وتعرضت 368 وحدة لضرر جزئي، أي ما نسبته نحو 19.7%، فيما خرج عن الخدمة نحو 378 سيارة إسعاف من إجمالي 801 سيارة كانت موجودة قبل الأزمة، لتكون نسبة السيارات المتضررة نحو 47.19%.
الحديث عن ضرر الوحدات الصحية يعني بطبيعة الحال تخريب التجهيزات الصحية وخروجها عن الخدمة، وهو ما تسبّب بتعثر حصول المرضى في العديد من المناطق على العلاج وصعوبة الوصول إلى المستشفيات والمراكز الصحية، الأمر الذي أدى إلى حصول ضغط كبير جداً على المستشفيات والمراكز الصحية في المحافظات والمناطق الآمنة، لا سيما بالنسبة إلى الحالات المرضية المتقدمة أو المزمنة.
ووفقاً لمسح تقييمي لوضع المستشفيات السورية أجرته وزارة الصحة مع منظمة الصحة العالمية، من بين 11 مستشفى خضع لتقييم في نهاية العام 2018 كان هناك 57 مستشفى يعمل بالكامل، أي ما نسبته 51%، و28 مستشفى يعمل بشكل جزئي ويعاني نقصاً في الكادر البشري والمعدات والتجهيزات، أي ما نسبته 25% من إجمالي عدد المستشفيات، فيما كان هناك 26 مستشفى خارج الخدمة، بنسبة قدرها 2%.
هذه النتائج تتقارب أيضاً مع وضع الوحدات الصحية التي كشفت النتائج أنَّ 46% منها تعمل بشكل كامل، و20% تعمل بشكل جزئي، و34% غير عاملة أو متوقفة.
ومع أن السنوات الماضية، التي تلت عام المسح المشار إليه، شهدت إصلاح وإعادة تأهيل كثير من المستشفيات والمراكز الصحية، إلا أنَّ التحدّيات لم تكن تتوقف على إعادة بناء المنشآت فحسب، إنما الأهم هو تشغيلها في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة التي جعلت البلاد عاجزة عن زيادة إنفاقها على القطاع الصحي وتأمين مستلزماته ومعداته.
وتأكيداً لذلك، تظهر البيانات الرسمية أنَّ الإنفاق على الصحة خلال الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2010 بلغ أكثر من 1.6% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، فيما بلغ هذا الإنفاق خلال الفترة الممتدة ما بين 2011 و2019 نحو 1.1%، أي بتراجع نصف نقطة مئوية.
كما أنَّ النقص الحاصل في الكوادر الصحية شكّل بدوره تحدياً كبيراً خلال السنوات السابقة، ولا يزال. وبحسب التقارير السكانية، فإنَّ هذا النقص كان حاداً في بعض المحافظات، مثل درعا ودير الزور وحلب، نتيجة لتسرّب الكوادر البشرية وهجرة العديد منهم نتيجة الأزمة التي انعكست على عوامل الاستقرار وتدني مستوى الرواتب والأجور.
وبالتالي، ارتفع متوسط عدد السكان من 650 نسمة لكل طبيب عام 2010 إلى 732 نسمة عام 2015، وإلى 852 نسمة عام 2020، وارتفع متوسط عدد السكان للسرير في المستشفيات من 800 نسمة لكل سرير عام 2010، ليصل إلى 1509 عام 2015، وإلى 1656 نسمة لكل سرير عام 2020.
في الخانة الثانية، تأتي التداعيات الناجمة عن العقوبات الغربية والمؤثرة في القطاع الصحي، وهي للأسف كثيرة ومتشابكة إلى درجة يصعب معها الفصل بين تداعيات مباشرة وأخرى غير مباشرة؛ ففي النّهاية، يعاني آلاف المرضى جراء عدم تمكّنهم من الحصول على العلاج المناسب، وعدم توفر الأجهزة المتطورة، وفقدان الأدوية ذات الجودة العالية، ومن هؤلاء المرضى من فقد حياته، ويمكن لاحقاً تقديم أدلة إحصائية على ذلك.
ويمكن باختصار تحديد الانعكاسات السلبية للعقوبات على القطاع الصحي الذي بات اليوم خاضعاً بشكل مباشر لعقوبات أميركية:
– صعوبة حصول المنشآت الصحية، من مستشفيات عامة وخاصة، على احتياجاتها من التجهيزات والمعدات الطبية جراء تخوّف الشركات الغربية من التعرض للعقوبات الأميركية، الأمر الذي يضطر الشركات السورية إلى الاستيراد عبر بلد ثالث، وتالياً ارتفاع التكاليف وتأخر المدة الزمنية.
– الإجراءات الطويلة الَّتي فرضتها العقوبات على القطاعات المالية والمصرفية والمرافئ وغيرها، وهو ما يزيد كلفة الاستيراد وتراجع عملية تحديث التجهيزات والمعدات الطبية من جهة، ويتسبب بحدوث اختناقات وضعف في تقديم العلاج للمرضى في معظم المحافظات السورية من جهة أخرى. مثلاً، يعاني معظم مرضى الأمراض المزمنة والخطرة فقدان الجرعات الدوائية وعدم انتظام توريدها إلى البلاد وعدم جودة البدائل المتاحة.
– عرقلة تطور الصناعات الدوائية السورية التي وصلت إلى مرحلة باتت تصدر فيها إلى نحو 47 دولة؛ فالعقوبات دفعت العديد من شركات الدواء العالمية إلى وقف تعاملها مع نظيراتها السورية وتوقف استيراد الدواء السوري، وهو ما انعكس سلباً مع مرور الوقت على ميزانيات البحث والتطوير العلمي لهذه الشركات وتوسعها في الإنتاج وتكاليفها.
– تأثيرات العقوبات في سعر صرف الليرة أسهمت في ارتفاع تكاليف العلاج على الحكومة والمواطن معاً، وتضاؤل ما يخصص من مبالغ سنوية في الموازنة العامة لتطوير منشآت القطاع الصحي الحكومي وإصلاحها، وكذلك خسارة الكفاءات والخبرات الصحية الوطنية التي اضطر بعضها إلى الهجرة بحثاً عن عمل أفضل.
أمراض وأوبئة
هذه الأوضاع غير المريحة تركت نتائج سلبية عميقة على مجمل المؤشرات العامة الصحية في البلاد، والتي وصلت في العام 2010 إلى وضع مرضٍ، وكانت هناك طموحات كبيرة لتحسين تلك المؤشرات، لكن جلّ الطموح اليوم هو إعادة بعض تلك المؤشرات إلى سابق عهدها، وهي مهمة تتداخل في تحقيقها عدة عوامل اقتصادية واجتماعية، وليست صحية فحسب.
في العموم، يمكن القول إنَّ تهالك النظام الصحي الوطني خلال سنوات الأزمة حال دون وقف تدهور المؤشرات الصحية. ورغم الجهود التي تبذل حالياً، فإنّ تفاقم صعوبة الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وتمكن العقوبات الغربية من تعطيل حياة السوريين وتعقيدها، أبقيا النظام الصحي في “غرفة الإنعاش”.
وتأكيداً لما سبق، يمكننا استعراض بعض المؤشرات المرتبطة بحياة الأسرة السورية. تبعاً للبيانات الرسمية، فقد تم تسجيل زيادة في معدلات الإصابة بالأمراض بسبب النقص الحاد في الخدمات الطبية، وخصوصاً الأمراض المزمنة، وصعوبة الوصول إلى الخدمات الصحية.
المثال الأكثر وضوحاً على ذلك هو صعوبة وصول النساء إلى خدمات الصحة الإنجابية، وتالياً انخفاض عدد الولادات التي تتمّ بإشراف مختصّ، ما تسبب بزيادة عدد وفيات الأمهات أثناء الولادة؛ ففي عام 2010، كان معدل وفيات الأمهات 52 وفاة لكل 100 ألف ولادة حية، ليرتفع عام 2015 إلى نحو 67 وفاة، ثم ينخفض عام 2018 إلى نحو 62 وفاة، بفعل ترميم بعض الخدمات الصحية بجهود محلية وأممية.
كما أن هناك ارتفاعاً في معدل وفيات الأطفال. وبحسب أرقام وزارة الصحة، يبلغ معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة خلال الشهر الأول من الولادة نحو 11.8 بالألف. وقد جاءت محافظات درعا والسويداء والحسكة وريف دمشق في صدارة المحافظات التي شهدت أعلى معدل وفيات لهؤلاء الأطفال، فيما كانت دمشق وحمص وحلب الأقل.
ويعدّ مرض الخداج الذي يتضمّن الشدة التنفسية أهم سبب للوفاة. وقد بلغت نسبته نحو 43%، ثم إنتاج الدم عند الوليد بنحو 15%. أما التشوّهات الولادية، فأتت في الدرجة الثالثة 10%.
إضافةً إلى ما ذكر سابقاً، من بين ملامح التدهور في الوضح الصحي ضعف الحصانة المستقبلية ضد الأمراض لدى المواطنين جراء النقص في إمكانيات التحصين. مثلاً، خلال سنوات الأزمة، عادت بعض الأوبئة التي تم القضاء عليها منذ عقود إلى الظهور مجدداً، مثل شلل الأطفال والكوليرا والسل، إضافةً إلى انتشار ما هو موجود، مثل مرض اللاشمانيا.
على سبيل المثال، تذكر بيانات أممية أن البلاد شهدت زيادة في عدد الإصابات بمرض الحصبة بين عامي 2011 و2017، إذ سجل العام 2014 نحو 594 إصابة. وفي عام 2017، وصل العدد إلى نحو 738 إصابة.
الأسوأ مع الزلزال
أياً كان الوقت الذي يحدث فيه الزلزال، فهو يبقى سيئاً بالنسبة إلى المجتمع وإلى مؤسسات أي دولة تبعاً لشدته وآثاره، إنما في زلزال سوريا الأخير كان التوقيت أكثر من سيئ، فبعد 3 سنوات من الحصار القاتل والانهيار الاقتصادي المتسارع، جاء الزلزال ليضاعف متاعب النظام الصحي.
وهناك محافظات يعد العديد من مناطقها أشد تأثراً بالأزمة، بدءاً من حلب التي شهدت معارك قاسية ولا يزال بعض ريفها خاضعاً لسيطرة فصائل مسلحة، مروراً بإدلب التي تعيش أوضاعاً مأساوية بالأساس، فاللاذقية التي عانت ما عانت في هذه الأزمة من خسائر بشرية كبيرة وضائقة اقتصادية وضغط سكاني غير معتاد، وانتهاء بحماه المتعبة اقتصادياً.
هنا، كان النظام الصحي في المحافظات الأربع المذكورة في مواجهة التحديات التالية:
– ضغط هائل في أعداد المراجعين وما يطلبه ذلك من الحاجة إلى تقديم خدمات صحبة عاجلة ومتشعبة ومتعددة في مقابل محدودية أعداد المستشفيات وأسرّتها وتجهيزاتها ومعداتها واحتياجاتها الدوائية وكادرها البشري.
– مواجهة حالات من الإصابات غير معتادة في سوريا، كمتلازمة الهرس وما تطلبه بدايةً من إجراءات إسعافية قبل الاستعانة بالخبرات الطبية الخارجية، ومتابعة رجال الإنقاذ أثناء عملهم وما إلى ذلك.
– لا يتوقف الأمر عند حالات الإصابة الناجمة عن انهيار الأبنية، إنما في التداعيات النفسية والعصبية التي أصابت آلاف الأسر وأفرادها وأطفالها، وهي تحتاج إلى متابعة ودعم، وأحياناً إلى أدوية، والأهم أنها تفرض على المنشآت الصحية مسؤولية الوصول إليهم.
– المخاوف المرتبطة بوقوع الكوارث الطبيعية والمتعلقة بإمكانية انتشار الأوبئة والأمراض، وما يفرضه ذلك من إجراءات صحية وقائية وحملات تلقيح للتحصين ضد بعض الأمراض ومتابعة حالات الأمراض المزمنة. وتتحدث التقديرات الرسمية عن وجود أعداد ليس قليلة منها. مثلاً، نسبة السكان المصابين بأمراض مزمنة في مدينة حلب تصل إلى نحو 12.1%، واللاذقية 17.8%، وحماه 10.%
خليك معناالمصدر: الميادين نت