العرض العسكري التي أجرته القوّات المسلّح الصينية بمناسبة العيد التسعين لتأسيس الجيش الوطني الصيني حدث مميّز على الصعيد الداخلي الصيني وعلى الصعيد الجيوسياسي والدولي. والدلالات عديدة من حيث التوقيت والشكل، ومن حيث الحجم، ومن حيث نوعية السلاح الذي تمّ الكشف عنه، وأهم من كل ذلك التغطية الإعلامية الصينية والعالمية لذلك الحدث.
فعلى صعيد التوقيت، أي في 30 تموز/يوليو 2017 فهي أولا ذكرى تأسيس الجيش الصيني عام 1927 والمعروف آنذاك بجيش التحرير الشعبي الصيني، كما أنه جاء بالصدفة بعد بضعة ساعات من تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب يحمل فيه على الصين بسبب تلكؤها عن لجم كوريا الشمالية في تجاربها الصاروخية العابرة للقارات.
ثانيا، يأتي هذا العرض أيضا بعد المناورات الضخمة المشتركة مع روسيا، وبعد التجارب الناجحة في كوريا الشمالية في إطلاق صواريخ عابرة للقارات.
وثالثا، أجري العرض بعد الاستفزازات الأميركية في بحر الصين بحرا وجوّا.
أما على صعيد حجم الاستعراض فكان يضم 12،000 جندي من سلاح البر والمشاة والطيران. الصدمة التي أصيبت بها الدوائر الغربية وخاصة الولايات المتحدة تدلّ على مدى عجز الاستخبارات الغربية عن مراقبة ومتابعة التطوّرات الصينية.
والاعلام الأميركي المهيمن استفاض بعرض تداعيات القوّة العسكرية المكتشفة. الموقع البريطاني “مترو” اعتبر العرض الصيني مرعبا. ما لفت انتباه الاعلام الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص مكان إجراء العرض العسكري. فقد قرّرت الحكومة الصينية إجراء العرض في صحراء منغوليا، في التراب والرياح العاصفة، كما لفت الانتباه أن العسكريين كانوا يرتدون لباس القتال وليس لباس الاستعراض.
الرسالة واضحة تعبّر عن الجهوزية القتالية الصينية. وفي هذا السياق حضر الرئيس الصيني شي جينبينغ العرض في لباس الميدان العسكري وكقائد الأعلى للقوات المسّلحة وليس كرئيس مدني مع ربطة العنق والبذلة الأنيقة.
ما علّق عليه المراقبون إضافة إلى ما سبق هو نوعية السلاح التي تمّ عرضه. بعض التقديرات تعتبر أن أكثر من 50 بالمائة من الأسلحة المعروضة عُرضت للمرة الأولى. فمن جهة هناك الترسانة الصاروخية بكافة تشكيلاتها المحمولة العابرة للقارات والقريبة والمتوسطة المدى، ومن جهة أخرى المقاتلات الجوّية الجديدة التي قد تنافس الطائرات الأميركية، وأخيرا المدفعية المتطوّرة. لن نخوض في التفاصيل التقنية بل نكتفي بالاستنتاج الأساسي أن التفوّق التكنولوجي الذي كانت تتمتّع به الولايات المتحدة لم يعد قائما.
بعض المحلّلين استفاضوا بإجراءات الرئيس الصيني في إعادة هيكلة القوّات المسلّحة عبر تقليص العدد وتحسين النوعية والجهوزية القتالية والعتاد التقنّي الفعّال لإعداد قوّة نخبوية. هذا يعني في رأينا أن الصين تقول للعالم أننا أصبحنا قوّة عظمى ليس فقط على الصعيد الاقتصادي بل أيضا على الصعيد العسكري. هذا يعني أن منظومة شانغهاي الأمنية والاقتصادية أصبح لها أنياب.
كما يعنى أن الكتلة الاوراسية ليست فقط كتلة بشرية ومساحة جغرافية ومركز موارد طبيعية هائلة، بل هي أيضا منظومة جيوسياسية عسكرية لا يمكن تجاهلها من بعد. فطريق الحرير، أو ما هو معروف بالحزام الواحد والطريق الواحد، أصبح معبّدا بقوة عسكرية. هذه هو معنى المناورات الضخمة المشتركة مع روسيا، وهذا هو معنى الكشف عن السلاح النوعي الموجود.
وأن تأتي هذه الرسائل بعد الإنجازات في كل من سورية ولبنان يعطي بعدا عربيا لتلك الكتلة كما يعطي بعدا على مستوى القارة الآسيوية لمحور المقاومة. التراجع الأميركي في سورية يقابله صعود روسي صيني إيراني عربي مشترك.
أما على الصعيد الداخلي الصيني، فإن الرسالة التي وجّهتها القيادة الصينية للقوّات المسلّحة هي التأكيد الولاء المطلق للحزب الشيوعي الحاكم كما جاء في خطاب الرئيس الصيني الذي استمر 50 دقيقة. وهذا الأمر يستدعي عدّة ملاحظات.
الملاحظة الأولى هو نجاح النموذج الصيني حتى الآن بتلازم النهج العقائدي والسياسي المتمثل بالحزب الشيوعي مع نظام اقتصادي يعتمد اقتصاد السوق بشكل عام والتراكم الرأسمالي. هنا يمكن التساؤل هل تمّ اخضاع رأس المال للسلطة السياسية خلافا لما هو قائم في الغرب؟ الإجابة على ذلك خارج إطار هذه المساهمة ولكن السؤال مطروح علينا جميعا ونحن نفكّر بمشروع نهضوي يجمع التنمية والاستقلال الوطني في آن واحد.
فالنمو الصيني قابله نموا في القدرات السياسية التي عزّزت الاستقلال الوطني. طبعا لا يغفل عن بالنا بُعد الحجم. فحجم الصين قدرة بحدّ ذاتها، وعلينا كعرب أن نفكّر بطريق الوحدة العربية للوصول إلى حجم يمكنّنا من الحصول على الاستقلال الوطني والقومي والمباشرة بتنمية، ناهيك عن الأبعاد الأخرى في مشروعنا النهضوي كالعدالة الاجتماعية، والمشاركة الشعبية، والتجدّد الحضاري.
الملاحظة الثانية هي أن العرض العسكري، والتأكيد على الولاء المطلق للقوّات المسلّحة، جاء بعد حملة مكافحة الفساد في أروقة الحكم وفي محيطه. فمكافحة الفساد المستمرّة تعطي مصداقية للنهج السياسي المتبع والمرفق بمظهر قوّة يُحسب لها ألف حساب. في رأينا، هذا يعني أن أي إصلاح سياسي واقتصادي يبدأ بإنجاز القوة، وعلى صعيدنا العربي لن تكون القوّة إلاّ بالوحدة.
الملاحظة الثالثة هي أن مظهر القوة سيلجم محاولات المشاغبة المدفوعة من الغرب بشكل عام ومن الولايات المتحدة عبر إثارة قضايا حقوق الانسان والحرّيات العامة. جاء الاستعراض ليعزّز موقف الحكومة الصينية في مواجهة منتقديها داخليا وخارجيا عبر الالتفاف الوطني الذي يعتزّ بمظهر قوة الصين. وكما قال ماو تسي تونغ، القوة تأتي من “بوز المدفع″. والظهور بالقوة وبهذه القوة سيعزّز فرص كسب ولاية جديدة للرئاسة. فالرئيس الصيني سيشرف على مرحلة تفوّق الصين على الولايات المتحدة.
أما على الصعيد الخارجي، فالرسالة واضحة للولايات المتحدة. أصبحت الصين قوّة عظمى وجيشها هو الضامن للسلام العالمي بدلا من ادعاءات الولايات المتحدة. يعتبر المؤرّخ الفريد مككوي في مؤلّفه الأخير “ظلال القرن الأميركي: صعود وأفول الولايات المتحدة” أن الصين ستتفوّق على الولايات المتحدة اقتصاديا وعسكريا بحلول 2030 مما ينهي فعليا الهيمنة الأميركية على العالم.
من الواضح أن الرئيس الصيني يقود سياسة خارجية حازمة ولكن دون اللجوء إلى القوة والعنف. نشهد ذلك فيما تقوم به من عسكرة تدريجية في جنوب بحر الصين لتثبيت سيطرتها على الممرّات البحرية التي كانت تتحكّم بها الولايات المتحدة وفقا للاستراتيجية القديمة البريطانية التي تقضى أن السيطرة على العالم تمرّ عبر السيطرة على البحار. من هنا نفهم إقامة قاعدة بحرية في جيبوتي على مدخل البحر الأحمر. فإذا فقدت الولايات المتحدة السيطرة على البحار، وهي فاقدة الآن للسيطرة البرّية على آسيا، فتكون قد فقدت كل شيء.
فالكتلة الاوراسية هي “الجزيرة العالمية” وفقا لوصف المفكر الجيوسياسي الأول في القرن العشرين هالفورد ماكندير. وهذه الجزيرة محاطة بالبحار. كانت آنذاك المملكة المتحدة سيّدة البحار ومن بعدها الولايات المتحدة. ولكن في نظر ماكيندر السيطرة على البحار لا تكفي بل قد تكون بلا جدوى إن لم تكن هناك سيطرة على “الجزيرة الكبرى”.
من هنا نفهم مغزى الصراع على اوراسيا والتحول إلى آسيا” في مفهوم الرئيس الأميركي أوباما. الرئيس الأميركي أوباما هو ربما الرئيس الأميركي الوحيد الذي يستوعب البعد الجيوسياسي لما يُسمّى ب “اللعبة الكبرى” على حد قول البريطانيين. ومن هنا نفهم جهود الصين وروسيا لتوحيد القارة الآسيوية مع القارة الأوروبية على الأقل في المرحلة الراهنة على الصعيد الاقتصادي. نعتقد أن هذا الأمر يستدعي نقاشا مطوّلا يمكن أن يرعاه مركز دراسات الوحدة العربية.