الصباح اليمني_ مساحة حرة|
كثير هم الحكام الجمهوريون الذين سقطوا في السنوات العشرين الأخيرة بين قتيل وطريد لسبب واحد مشترك هو تنكرهم لمعنى النظام الجمهوري ومبدأ تداول السلطة. ولو أنهم لم يتمردوا على ذلك المبدأ، ولم يتمسكوا بالسلطة حتى الموت، أو العزل بطريقة مهينه وبالغة الأذلال، لما أصابهم ذلك الشر ولا عرفت بلدانهم التفتت وصارت ميداناً للفوضى. وما يحدث في السودان ما هو إلاَّ لقطة من المسلسل الدراماتيكي الذي يعكس أحوال الوطن العربي ويكشف الأسباب الحقيقية لتخلفه وتدهور أوضاعه السياسية والاقتصادية. ومهما كانت النتائج التي سوف يسفر عنها الانقلاب الأخير في الخرطوم فإن فصلاً جديداً من المشكلات والتطورات السلبية ستخلق حالة من الانقسام في الشارع السوداني، لكي يلحق هذا البلد بغيره من البلدان العربية التي لم تتمتع منذ وقت طويل بفترة من الاستقرار والشعور بالطمأنينة. والسؤال الذي يتردد على كل لسان هو : ما ذنب بعض أقطارنا العربية ليكون هذا هو واقعها وذلك هو مصيرها؟ وما ذنب أبناءها ليكونوا عرضه للتمزقات والانقسامات والمعاناة الدائمة؟
عرفت السودان لأول مرة بعد سنوات قليلة من فوزه بالاستقلال، وكان يومها يفيض بالخيرات، كل شيء من اللحوم والفواكه والخضروات يباع بقروش قليلة لا بالجنيهات، وكان الجنيه السوداني يومذاك يساوي الجنية الانجليزي وقد يتفوق عليه. وعندما زرت السودان للمرة الثانية كان الأمر قد اختلف كثيراً، أما في الزيارة الثالثة فقد وجدت سوداناً لا علاقة له بالسودان الذي عرفته في أواخر الخمسينات. كان كل شيء قد تبدل وتغيرّ وكأني في سودان أخر ، وأن بقى منه شيء واحد لم يتغير كثيراً ألا وهو الإنسان العربي السوداني في شهامته وابتسامته واستقباله للحياة بقدر كبير من الأمل والشعور بالبهجة ولو في قلب المأساة. وأنني لأتخيله الآن وسط الاضطراب الراهن وهو أبعد ما يكون عن اليأس والشعور بالإحباط، وأكاد المحه وهو يرقص ويغني ويردد الكلمة المشهورة والمتداولة في الأوساط الشعبية “أبشر”، بما لها من دلالة تفاؤلية.
لقد جنى الحكام الجمهوريون الخارجون عن مبادئ هذا النظام على أنفسهم وعلى بلدانهم، وشكلوا بتمسكهم غير المبرر في تكريس الحكم عقبة في طريق التطور والتنمية، وتحولت كل جهودهم إلى حراسة كراسي الحكم وحمايتها من السطو والانتفاض، ولم يعد للسلطة الحاكمة من مهمة خارج هذه المهمة التي تخص الحاكم وكرسي الحكم. وكم كان الخير الذي سيعود على الشعب وعلى الحاكم في حالة الأخذ بمبدأ تداول السلطة والاقتناع بسنوات محدودة يقضيها الحاكم في السلطة ثم يعود مواطناً صالحاً تسبق اسمه صفة “الرئيس السابق” مع قدر من الاحترام والاجلال بدلاً عن استئثاره بالحكم لفترة قد تطول لكن نهايتها حتمية ومعلومة مسبقاً.
ثلاثون عاماً هي الفترة التي امضاها الرئيس عمر البشير في الحكم المطلق كامل الصلاحيات خالص النفوذ، لكنها لا تساوي يوماً واحداً في السجن، ولا تغنى عن ساعة من الشعور بالقهر وفقدان كل شيء ابتداء من السلطة إلى السمعة وإلى الاستقرار النفسي الذي يتمتع به المواطن العادي. ولم يحدث حتى الآن أن حاكماً من هؤلاء الذين أمسكوا الحكم بأيديهم وأظافرهم وأنيابهم قد سجل مشاعره في لحظة السقوط المريع لعل فيها من العبرة ما ينفع أولئك الطامعين في السلطة المطلقة والذين لا يريدون أن تكون فترة الحكم الجمهوري محصورة بثماني سنوات أو عشر سنوات حسب ما يحدده الدستور وتقتضيه مصلحة الحاكم والمحكوم. والسؤال المطروح عربياً هو: إلى أين يتجه الأمر في السودان بعد الانقلاب الأخير، هل إلى حكم جمهوري ديمقراطي أم إلى دكتاتورية عسكرية جديدة؟!