بقلم: د. وفيق إبراهيم|
القراءة الموضوعية لنتائج القمة الأميركية السعودية في الرياض تربط بشكل بديهي بين بندين أساسيّين وردا فيها واحد يؤيّد السلام الكامل مع «إسرائيل» عربياً وإسلامياً، فيما يزعم الثاني أنّ حزب الله هو العدوّ والإرهابي الأول إلى جانب القاعدة و»داعش».
وهكذا يتلاقى الموقف السعودي مع الموقفين «الإسرائيلي» في إدانة حزب الله واتّهامه بالإرهاب والإجرام، فظهر تلقائياً الانعكاس القانوني لهذا التقاطع في المواقف بما يمنح «إسرائيل» وبسخاء الحق بِاسم العالمين العربي والإسلامي بمهاجمة لبنان كذريعة للقضاء على حزب الله الموضوع على لوائح الإرهاب في السعودية والولايات المتحدة الأميركية و»إسرائيل».
ولأنّ لبنان يحتوي على مكوّنات سياسية واجتماعية متعدّدة، فإنّ التشجيع السعودي على حرب «إسرائيلية» على لبنان يستهدف الشعب اللبناني بتنوّعاته كاملة، ويؤدّي إلى ضرب الاستقرار فيه بما يهزّ الكيان السياسي نفسه، متيحاً للقاعدة و»داعش» و»النصرة» التأسيس لحروب أهلية برعاية المخابرات السعودية والأميركية و»الإسرائيلية»، كما حدث في العراق وسورية واليمن.
هذه ليست مجرّد اتهامات كيدية تغيب بعد قراءتها مباشرة، لكنّها تقدّم شرحاً علمياً للنتائج اللبنانية لقمّة الرياض، وذلك للتحذير من اتّجاهاتها الإرهابية الفعلية، على أن يتكفّل إعلاميون آخرون بإظهار الكوارث العربية والإسلامية التي تضمّنتها.
ما هي إذاً النتائج المتوقّعة؟
من المنتظر أن تنعكس بسرعة على الصراع السياسي الحاد بين القوى البنانية، فهناك انسداد كامل بين اللبنانيين وهم ينتقلون من اجتماع فاشل إلى آخر أفشل منه وهكذا دواليك.. ويدور الصراع حول الشكل الأفضل الذي تعتقد فيه كلّ قوّة لبنانية أنّها تنال بموجبه مقاعد نيابية أكثر في قانون الانتخاب الجديد. فتكاد المهل الدستورية تنقضي بما يهدّد بفراغ يطيح دور المؤسسات الدستورية مؤدّياً إلى فراغ وانهيار.
هذه هي البيئة المناسبة لتحرّك أميركي سعودي «إسرائيلي» قد يعتمد واحداً من حلّين: تغذية الصراعات السياسية الداخلية لمنع إنتاج قانون انتخابي جديد، فيزداد التوتّر في الشارع وتنمو الخلايا المتطرّفة من رحم «داعش» و»النصرة»، إنّما بمسمّيات جديدة، والهدف عرقلة حركة حزب الله نحو سورية وتهشيم دوره السياسي في لبنان.
وهذا يتطلّب إعادة تحريك تقوم بها قوى لبنانية محسوبة على السعودية لخلايا الإرهاب النائمة، مع تغيير في وجهة حركتها من سورية إلى الداخل اللبناني، ولإنجاح هذا المخطط لا بدّ من الاستعانة بـ»الإرهاب الفلسطيني» ومخيمات النازحين السوريين، لأنّهم يوفّرون كتلاً كبيرة قادرة على تفجير الأوضاع الداخلية.
ولتوفير الظروف الملائمة، قد تعمد السعودية إلى وقف دعم النازحين السوريّين والفلسطينيين، ولا تدفع إلا مقابل الاشتراك في الهجوم على حزب الله والانخراط في منظمات الإرهاب كما فعلت مع النازحين السوريين في الأردن وتركيا، واستعينوا بالأعداد الشهرية لصحيفة «اللوموند» الفرنسية كي تتيقّنوا من صحّة المعلومات حول حصرية التمويل القطري والسعودي للمنظمات السورية الإرهابية فقط. ما أدّى إلى نموّها بأسلوب إفقار النازحين الذين التحقوا بالإرهاب خوفاً من الجوع والفقر.
ماذا يعني اعتماد هذا الخيار؟ نشوب حرب أهليّة متواصلة بذريعة استنزاف حزب الله الذي يعتبرونه الوسيلة الأقوى لتمدّد إيران في المنطقة العربية. ويعتقدون أنّ إلحاق الهزيمة بحزب الله يؤدّي تلقائياً إلى تضعضع سورية وتراجع الحشد الشعبي في العراق وتقهقر دور الحوثيّين في اليمن واستسلام المعارضة البحرينية لآل خليفة من دون قيد أو شرط.
أمّا الخيار السعودي الثاني، فيذهب نحو تشجيع «إسرائيل» على خوض حرب تدمير واسعة لا تكتفي ببيئة حزب الله، بل تدمّر خطوط الربط بينه وبين البيئات اللبنانية الأخرى والتقاطعات مع سورية وإيذاء كلّ المناطق، لأنّ حزب الله أصبح منتشراً على مساحة كبيرة من لبنان، وهذا الحلّ يتطلّب إجراءات دولية وإقليمية وعربية ولبنانية.
قمّة الرياض هي الشرعية الإسلامية والعربية على حدّ زعم السعوديين والأميركيين و»الإسرائيليين»، لكنّ هذه الشرعية المزعومة لا تشمل روسيا المنخرطة في «أزمات الشرق الأوسط»، إمّا مباشرة أو بطرق غير مباشرة. ولا تحسب لإيران حساباً، ولا تقيم وزناً لردود فعل سوريّة أو عراقيّة، كما تفترض سهولة توريط النازحين السوريين والفلسطينيين الذين أساءت إليهم قمة الرياض بالاعتراف بـ»إسرائيل»، وعدم وضع آليات لمكافحة الإرهاب «الداعشي» القاعدي، الذي هجّرهم من بلادهم، الذي لا يزال يقاتل على الجبهات كلّها بإشراف الطيران الأميركي والغربي الذي يزعم أنّه يقاتل هذا الإرهاب في سورية والعراق.
وقد تلجأ المخابرات السعودية الأميركية إلى المزيد من تسعير الفتنة الشيعية السنّية بواسطة رجال دين محسوبين على القاعدة و»داعش»، بدأوا بالظهور مجدّداً إلى جانب حزب المستقبل الموالي للسعودية. هذا إلى جانب ضرورة إعادة إحياء التنظيمات الإرهابية تسليحاً وتمويلاً وإعلاماً ولوجيستية، مع تحويل وجهتها من سورية إلى الداخل اللبناني في بعض مناطق الجنوب وأحياء بيروت والبقاعين الأوسط والغربي وشمال البلاد.
فتتكرر مأساة بلدة عرسال التي أقام وجهاؤها والمسؤولون فيها علاقات مع المرحوم رفيق الحريري وورثته فيما بعد ، وتبيّن أنّهم قادة إرهابيّون في «داعش» و»النصرة»، ظهروا حين أراد «لبنانيّو السعودية» ذلك، وغابوا عندما انتفت الحاجة إليهم.
فهل يعودون؟ رفاقهم في الشمال كالرافعي وغيره عادوا إلى الساحة بعد خطاب هاجم فيه وزير الداخلية المشنوق حزب الله وسورية كالعادة.
تفترض هذه السيناريوات عدم وجود دولة في لبنان، والدليل تمثيل لبنان في الرياض عبر رئيس الحكومة الموالي للسعودية، سعد الحريري، بموافقة الرئيس ميشال عون الذي أوفد معه على سبيل الحدّ من الأضرار المعنويّة وزير الخارجية صهره جبران باسيل.
لكنّ الحقيقة أنّ الجيش اللبناني المتين لا يعكس المظهر المتهالك للدولة، بدليل وقفته الشامخة عند الحدود اللبنانية السوريّة في وجه الإرهاب، وهو مستعدّ للمضيّ في دوره الاستراتيجي المؤدّي إلى حماية الكيان السياسي والدولة والمجتمع بتنوّعاته الطائفية، ومرتبطاً برئيس الجمهورية الذي يعتبره الدستور قائد القوات المسلحة. أمّا في حالة الفراغ الدستوري، فرئيس الجمهورية يواصل مزاولة دوره القيادي للجيش حرصاً على سلامة البلاد وحمايته من المتطرّفين، ولا يمكن للرئيس عون التهاون مع المظاهر العلنيّة والمتسترة للإرهاب، حتى لو كانت محميّة من أطراف لبنانية سعودية الهوى أو ممالئة لها، لأنّ أي تهاون أو استسلام لمقولات أميركية لن يدفع ثمنها إلا اللبنانيّون، بمسيحيّيهم خصوصاً وعموم المسلمين من سنّة وشيعة ودروز. فلا مكان عند الفكر المتطرّف الإرهابي إلا للمنتسب إليهم تنظيماً وانصياعاً، كما أنّ إغراء المسيحيين بمعادلات حكم جديدة، تنتمي بدورها إلى دائرة الخزعبلات، لأنّ انتصار الإرهابيين لا يُبقي أيّة قيمة للوعود والتعهّدات، لأنّ كل الطامحين يصبحون تحت رحمة السكين الإرهابية، وأحداث التاريخ شاهدة كيف كانت الحركات الإرهابية تستغل منازعات داخلية كي تتسلّل وتفرض سلطانها وجبروتها على الجميع.
إنّ زمن الجري وراء معادلات حكم داخلية تستند إلى أحادية طائفية أو مذهبية قد ولّى إلى غير رجعة لاعتبارات تتعلّق بالتوازن الدقيق بين اللبنانيين وحاجاتهم إلى بعضهم بعضاً، وظهور مراكز إقليمية ودولية جديدة تنافس المراكز الدولية والإقليمية القديمة التي كانت تؤازر بعض اللبنانيين على البعض الآخر. وهذا الوضع يعطّل تسلّط مذهب أو اثنين على بقيّة المكوّنات، لكنّه لا يدفع حتى الآن لإنتاج آليّة حكم حديثة تدمج بين اللبنانيين.
كانت الحريرية السياسية نتاج اتفاق بين ثلاثة أنواع من النفوذ السعودي والأميركي والسوري الذي حلّ مكانه الإيراني بعد اندلاع الأحداث في سورية، ويبدو أنّ الدفع السعودي لحرب «إسرائيلية» على لبنان بهدف القضاء على «حزب الله» بزعم إيرانيّته، يبطن مشروع «سعودة لبنان» وتحويله إمارة مموّهة بشخصيات لبنانية من آل الحريري أو مَن يشابههم في الانصياع والولاء.
وهذا مشروع خيالي دونه ضرورة إلحاق هزيمة بحلف كبير هو روسي إيراني سوري عراقي، وصولاً إلى حزب الله في لبنان، وتعتقد الرياض أنّها مدعومة من واشنطن. لكنّها قد تعرف في مراحل متقدّمة أنّ السياسة الأميركية تدعمها في توتير منطقة الشرق «الأوسط وافتعال حروب بواسطة «إسرائيل» والإرهاب، لكنّها لا تسمح لهذه الحروب أن تكون حاسمة.
المطلوب أميركياً حالة حروب مستمرة لا تنتهي للزوم بيع السلاح والسّلع والدفع للكاوبوي مقابل الحمايات.
إنّ الاختباء وراء براعة اللغة العربية شأن يتقنه السياسيون اللبنانيّون، وهو مباح إلا هذه المرّة، لأنّ الوضع خطير جداً. فإذا كان الوزير باسيل لا يوافق على وصف حزب الله بالإرهابي، فإنّ عليه أن يقول ذلك في جملة عربية صحيحة لا تختبئ خلف مواربات خطاب «القسم وتشابهاته».
وإذا كان الشيخ سعد من أنصار رفض وصف حزب الله بالإرهاب فليقلها بوضوح، لأنّ عدم قولها هو بمثابة وضع جدران من الإسمنت في طريق العلاقات مع حزب الله، وبيئته وتحالفاته ورئاسة الحكومة.
أمّا التوهّم بإمكانية الانتصار على حزب الله بواسطة الإقليم، فإنّ التحالف الروسي السوري الإيراني هو الذي يسجّل الانتصارات، ولن يلجأ ترامب إلى السلاح النووي مهما بلغت درجات جنونه خطورة..
الكلمة إذن في الميدان والتحالفات الكبرى، فلماذا لا ينأى اللبنانيون بأنفسهم عن دعم الإرهاب المؤيّد من الخليج؟ فهذه هي الطريقة الوحيدة التي يحافظون فيها على أدوارهم وبلادهم، ويبقى حزب الله مدافعاً عنهم وعن لبنان والإقليم في آنٍ معاً. خليك معنا