الصباح اليمني_قراءات|
بعد مرور أكثر من عامٍ على تولي محمد بن سلمان منصب ولي العهد في بلاده، يتساءل كثيرون عن حقيقة ما يجري من “تغيير” في العربية السعودية… جوهري أم شكلي؟ وهل سيقود إلى “السعودية الجديدة” كما يأمل طامحون؟ أم سينتهي بها إلى مملكة “الخوف والصمت” كما يعتقد آخرون؟ وما حدود هذا “التغيير” وآفاقه، على الصعد الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية؟
ربما لا يمكن الجزم بمستقبل بلاد الحرمين، واتجاهات سياساتها الداخلية والخارجية بشكل قاطع، بيد أن ثمّة مؤشراتٍ مقلقة، قد ترجّح دخول السعودية في حالةٍ من الأزمات الداخلية والخارجية المتشابكة معاً، على نحو قد يختلف كثيراً عن كل ما مرّت به المملكة منذ تأسيسها عام 1932، ما يعني أن استحضار السياسات والأساليب القديمة، أو استلهامها، لن يجدي نفعاً في علاج هذه الأزمات.. وثمة ثلاث ملاحظات على مصطلح “السعودية الجديدة”، وسياسات الرياض في تنفيذ “مشروع بن سلمان” داخلياً وخارجياً.
أولاها، المسعى الحثيث للنظام إلى تقديم محمد بن سلمان في صورة “أمير الإصلاح والتغيير”، الذي يروم دعم الشباب وتلبية مطالبهم، وحل مشكلات البلاد المزمنة. ولكن أحداً لا يقدّم للمجتمع السعودي أية ضمانات حقيقية، بشأن مسار هذا “الإصلاح الشكلي”، إلا عبر تسويق “رؤية 2030″، بوصفها المشروع الشخصي للرجل.
وهذا مسار “شخصنة” يطعن في جوهر المشروع، ويبتعد به من المؤسسية التي تبقى شرطاً لازماً لأي إصلاح حقيقي. وعلى الرغم من تناقض هذه الصورة الإعلامية “المصطنعة” مع “سياسة الاعتقالات”، و”تكميم الأفواه”، فإن الرياض لا تكترث كثيراً بتداعيات هذه السياسة على صورتها الخارجية.
لقد مرّت سياسة التوقيف/ الاعتقالات في “العهد الجديد” بثلاث مراحل؛ شملت الأولى الإسلاميين، بهدف منع أية انتقادات “محتملة” لسياسات النظام، خصوصاً في موضوعات: تهميش المؤسسة الدينية، وتعزيز الانفتاح السياحي/ الثقافي، ومشروع “نيوم”، وتزايد خطوات التقارب السعودي مع إسرائيل.
ثم جاء في المرحلة الثانية دور الأمراء ورجال الأعمال، بهدف توفير التمويل للمشروعات المتعدّدة ضمن “رؤية 2030″، مع ضمان تثبيت معادلة إقصاء الأمراء النافذين في النظام السعودي، خصوصاً من ينتقدون سياسات بن سلمان، أو يستهجنون تحالفه مع ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد.
وركّزت المرحلة الثالثة على الناشطات النسويات، حتى لا يبدو قرار السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة كأنّه جاء “نتيجة انتصار لنضال نسوي/ اجتماعي”، وإنما هو “مكرمة أو منحة أميرية” فحسب، ضمن رؤية ولي العهد “الإصلاحية”.
وقد استجد أخيرا احتجاز سفر الحوالي وسعد الغامدي، ما قد يؤشر إلى أن سياسة “تكميم الأفواه” ربما تشهد توسعاً وانتشاراً أكبر، في الشهور المقبلة.
تتعلق الملاحظة الثانية بالرهان المبالغ فيه على شخص الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، صاحب الأفكار المتشابهة مع ولي العهد السعودي؛ إذ تجمع بينهما أمور ثلاثة على الأقل: “ذهنية الصفقة”، بمعنى الرغبة في شراء كل شيء بالمال.
وبذل الوسع في “استرضاء إسرائيل” بالغالي والنفيس، عبر دفع “صفقة القرن” قُدماً. والتركيز على سياسات “الصورة” والتصريحات “الصادمة”، لتحقيق هدفين: صناعة الحدث، والتغطية على جوهر ما يريد الرجلان الوصول إليه، رغم وضوحه للقاصي والداني.
وليس مسلك الأمير السعودي الشاب بِدعاً في عالم السياسات العربية؛ لكن الجديد لديه درجة التعويل على الدعم الأميركي في ظرف دولي/ إقليمي بالغ التعقيد، مع التخلي عن أسلوب “الحذر السعودي”، وضرب ميراث “التوازنات السعودية السابقة، داخلياً وخارجياً”.
لا حاجة للتأكيد أن للرئيس ترامب أجندته وصفقاته، وجديدها ما حدث في قمة هلسنكي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، منتصف يوليو/تموز الماضي، وأنه ليس هناك من ضمانةٍ للسعودية أو غيرها لمعرفة حقيقة تلك الصفقات التي تهدف لإعادة ترتيب النظام العالمي، وفقاً لرؤى واشنطن وموسكو وبكين، “الثلاث الكبار عالمياً” في هذه المرحلة.
ليس مؤكّداً أن ما يتوافق عليه الكبار عالمياً سيصبُّ في مصلحة مشروع محمد بن سلمان، حتى عندما يسير ترامب، في سبيل تحقيق مصالحه، نحو تسخين الصراع مع إيران، أو تشديد العقوبات الاقتصادية عليها، أو السعي إلى التضييق عليها، وقلب المشهد ضدها في سورية والعراق، لإجبارها على الانكفاء على ذاتها، والدفاع عن “بقاء نظامها”، أو دفعها إلى القبول بالتفاوض مع واشنطن لإبرام اتفاق نووي جديد.
الأمر الوحيد المؤكد، فيما يحدث، أن قدرة واشنطن على ابتزاز السعودية والخليج، تضاعفت في ظل إدارة ترامب، مع إضعاف مجلس التعاون الخليجي، وتأجيج “العداوات السعودية” مع الجيران، بفعل اندفاع محمد بن سلمان في حربه في اليمن، وفي حصار قطر، وفي استعداء إيران عبر إطلاق تهديدات جوفاء بنقل المعركة إلى “داخلها”، على الرغم من عدم امتلاك السعودية أدواتٍ حقيقية لفعل ذلك.
ومن نافل القول إن جوهر التوافقات الدولية، إن حدثت، يصبّ في مصلحة تمكين إسرائيل، لتكون الفاعل الإقليمي الأقوى في الشرق الأوسط، على حساب العرب والأتراك والإيرانيين معاً، وهو أمرٌ لا يفيد السعودية، بأي حال.
وما استهداف الحوثيين البارجة السعودية “الدمام” في البحر الأحمر، والذي أدى إلى إيقاف تصدير النفط السعودي عبر باب المندب، مؤقتا، واحتمال استهداف الحوثيين مطار أبوظبي الدولي أيضاً، إلا حصاد اندفاعات الأمير الشاب في تبنّي سياسات واشنطن ضد طهران، والإصغاء إلى نصائح حليفه محمد بن زايد.
تتعلق الملاحظة الثالثة بتراجع حالة التفاؤل بإمكانية إصلاح النظام السعودي، وتحوّله إلى “ملكية دستورية”، وانفتاح الأبواب بالتالي على سيناريوهات سلبية، أحلاها مرّ.
ولا شك أن المعوقات الكثيرة أمام رؤية 2030، ومنها: إحجام الأثرياء عن الاستثمار في بلدهم نتيجة حملات الاعتقال، وتأخير طرح اكتتاب “أرامكو” إلى عام 2019، والصعوبات أمام “هيئة التصنيع العسكري” السعودية، ورفع الدعم الحكومي، وفرض ضريبة القيمة المضافة، ورفع أسعار الوقود والخدمات، بما يثقل جيب المواطن السعودي، كلها مؤشراتٌ تؤكد أن مقاربة محمد بن سلمان ليست ناجحة، حتى الآن على الأقل.
ومع الإصرار على “إسكات المعارضين”، وتغييب أية أصوات نقدية في الداخل، وتحويل دور وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث إلى “تبرير السياسات”، وليس اقتراح البدائل والحلول، يمكن القول إن ما يحدث في السعودية هو مزيج من خطوات جزئية قصيرة المدى، على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع إغلاق متعمّد للمجال السياسي، ما سيؤدي إلى إضعاف السعودية، وتراجع مكانتها الإقليمية والدولية، عاجلاً أم آجلاً.
باختصار، ستبقى “السعودية الجديدة” صورة متخيلة، لكنها قد لا تتحوّل إلى “حقيقة ملموسة”، في المدى المنظور على الأقل.
* أمجد أحمد جبريل كاتب وباحث في السياسة والعلاقات الدولية.
المصدر | العربي الجديد
خليك معنا