مع عودة الحديث في هذه الأيام عن مبادرة جديدة، لربما هي العاشرة، بعد الألف، لتسوية في المنطقة على أساس مبدأ «حل الدولتين»، واستنفار وسائل التضليل للترويج لقرب السلام مع العدو، من المفيد قراءة هذا المصطلح، بهدف فهم معناه الحقيقي، وأبعاده وجوهره وتأثيره في مسار الصراع العربي الصهيوني، ليس فقط في فلسطين وعليها، وإنما على مستقبل بلاد الشام وشرق المتوسط. لعل أفضل ما نبدأ به تفكيك مصطلح «الدولتين» وتوضيح معناه الحقيقي.
«الدولتان» مصطلح صهيوني في الأساس طرحه العدو عام 1951 حلاً للصراع المندلع. في حقيقته هذا المصطلح لا يعني سوى الرضوخ التام لشروط العدو لأنه يعني دفن فلسطين الوطن والشعب والقضية، والاعتراف بكيانه وصحة تمثيله لـ«يهود» العالم.
انطلاقاً مما سبق، فإننا نجدد إعرابنا عن تعجبنا بل واستنكارنا، للسماح له بالنفاذ إلى الخطاب السياسي الوطني، وتداوله، على نحو يبدو أنه مصطلح بريء، حتى في خطاب محور المقاومة، المقاوم حقاً، وذاك المقاوِم «المعتدل»! ألم يحن الوقت بعد لنبذ هذا المصطلح التضليلي والأخذ بالخطاب المقاوِم الواضح؟!
الآن إلى جوهر المبدأ وأبعاده حيث يدعي مردّدوه القول: إن «الدولتين» هو الحل، السحري، للقضية الفلسطينية، وبتطبيقه ينتهي الصراع العربي الصهيوني، بل حتى كافة المشاكل الناتجة من الصراع العربي الصهيوني!
يلاحظ المرء بداية أن المقولة، «الدولتان هو الحل»، ترد بصيغة التأكيد، بما يعني أن تلك الدولة المفترضة مركونة خلف الباب، أو ملقاة على رفوف في غرف التسوية، كما يقال، وأن كل ما على المرء عمله لإحلال «السلام العادل» هو التقاطها.
كمية التضليل في مقولة «حل الدولتين» أكبر من أن تتسع لها مقالة مختصرة حيث يستخدمها الانهازميون والمستسلمون من الزعامات الأعراب النفطية وزعامات رام الله المليشياوية للتغطية على حقائق الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
فمن المعروف أن العدو فرض أوضاعاً جغرافية وديمغرافية في «الضفة الغربية» عبر المستوطنات والطرق الالتفافية وجدار الفصل العنصري ما يجعل أي حديث عن إمكانية قيام دولة هناك، مستقلة أو غير ذلك، تضليل قصدي.
بإلقاء نظرة على الأوضاع في شرقي فلسطين، في الأرض المحتلة عام 67، نرى أن العدو قام بتحويل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية إلى بنتوستانات متناثرة منفصلة تتخللها مستوطنات عسكرية وقوات العدو تمنع أي اتصال في ما بينها. بذلك، تحولت «الضفة الغربية» إلى حزم أراض ليس غير، محاصرة بمجموعات من الصهاينة العنصريين اللصوص والقتلة المسلحين وكذلك بقوات العدو.
فعن أي دولة يتحدثون؟!
لذا فإن أي حديث عن إمكانية قيام دولة، مستقلة ذات سيادة، في الأراضي الفلسطينية المتبقية في «الضفة الغربية»، والتي لا تزيد مساحتها عن 20% من الأخيرة، قول لا يستحق الوقوف عنده ولو لغمضة عين.
«الدولتان»، الحل/ الطُّعم الذي طرحه العدو، وتلقفته الزعامات الانهزامية المستسلمة العربية والفلسطينية، التي لا تعرف من الدولة سوى أنها استعراض حرس الشرف وملحقاته الاستعراضية الغبية، وجوازات السفر الدبلوماسية وبطاقات الشخصيات المهمة، إضافة إلى المخابرات والسجون، ومصدر للاستيلاء على أموال الشعب، حلّ لإحلال السلام العادل المزعوم، هدفه ضم أراضي «الضفة الغربية»، لكن من دون أهلها الفلسطينيين.
لكن ثمة مسائل أخرى مهمة وأساس مرتبطة بهذا المصطلح التضليلي، يتجنب المنظرون له حتى الإشارة إليها، عدا عن الخوض فيها.
أولى هذه المسائل مصير «قطاع غزة» الذي لا يدخل ضمن التسوية الانهزامية الذي يتم تجنب الكلام فيه. ثم إن تسوية «الدولتين» تعني أيضاً استبعاد أبناء شعبنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48. وثالثاً، هذه التسوية تستثني أيضاً أهلنا في شرقي القدس.
«حل الدولتين» هذا يعني دفن حق العودة الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1949 وأيدته حتى واشنطن، بما يؤدي بالضرورة إلى استثناء فلسطينيي المهجر وفي المقدمة منهم أهلنا في المخيمات، الذين قبلوا الصمود هناك، جيلاً بعد جيل، لعقود، وخضعوا لمعاناة ما يعانونه فيها بانتظار يوم العودة إلى بيوتهم ومنازلهم وقراهم وحقولهم ومدنهم وبلداتهم التي طردهم العدو الصهيوني منها، بالتآمر مع عرب سايكس ـ بيكو!
أما فلسطينيو الأراضي المحتلة عام 48 والقدس، فعليهم، وفق طرح «الدولتين» قبول وضعهم كمواطنين من الدرجة الثالثة داخل كيان العدو وفقدان أي أمل في تحولهم إلى مواطنين كاملي الحقوق.
إن تجنب زعامات رام الله التعامل مع هذه وغيرها من المسائل الحيوية والأساس المرتبطة ببرنامجها الانبطاحي والاستسلامي، يعني أنه ليس لديها أي تصور حقيقي لمستقبل التسويات المزعومة، التي هي سرابية فعلاً، والتي ورطت شعبنا فيه بنبذها الاعتماد على شعوب أمتنا واتباعها نهج الاستسلام والاعتماد على أعراب سايكس ـ بيكو وبترودولارات أحفاد مسيلمة الكذاب، وحسن نوايا واشنطن ولندن.
زعامات رام الله المليشياوية لا تصور لديها ولا خطة عمل، منذ إقرارها، بضغط من السادات وأعراب البترودولار، برنامج التخلي عن فلسطين لصالح سلطة سرابية وهمية، الذي فرضته عام 1974. فكل ما فعلته هو تقديم التنازلات المجانية عن حقوق شعبنا ومكاسبنا الوطنية والقومية، للعدو مقابل القبول بها طرفاً على طاولة المفاوضات العقيمة، فصار برنامجها التفاوض لأجل التفاوض وليس غير ذلك حفاظاً على مكاسبها الشخصية لكن الخاضعة دوماً لحسن ظن العدو بها ورضاه عنها.
من منظور آخر، كلي النظرة، فإن الادعاء بأن «حل الدولتين» يقود إلى السلام، يعني اللهاث وراء حل انعزالي يفرضه الصهاينة الأشكناز على «يهود» العالم، ولا يختلف جوهرياً عن طرح «ألمانية الآرية»، أو طرح عصابات الكوكلاكس كلان المطالِبة بأميركة بيضاء، وغيرها من الحركات والتنظيمات الفاشية في الغرب، ولا يختلف أيضاً عن طرح «الرجل الأبيض الآري» العائد إلى كبير مجرمي الاستعمار البريطاني، ونستن تشرتشل.
إن مقولة «حل الدولتين»، أي «دولة اليهود» و«يهودية الدولة»… إلخ، تعني أن على يهود العالم العيش في فلسطين، وفيها فقط، وبالتالي فرض تطابق غير قائم بين «اليهودية» وكيان العدو المصطنع. إن هكذا دعوة لانتزاع البشر من محيطهم الثقافي والتاريخي والفكري والاجتماعي والمادي دعوة عصبية عنصرية، تتماشى طبعاً مع طبيعة الصهيونية. في الوقت نفسه، فإن «يهود» العالم يرفضون العيش في فلسطين ويفضلون البقاء في أوطانهم الحقيقة، والفالج بينهم وبين كيان العدو في تعاظم مستمر لأنهم يرفضون عده الممثل الشرعي لهم.
«الدولتان» ليس حل ولا يقود إلى أي سلام… انظروا إلى مصر «كامب ديفيد» وإلى شرق أردن وادي عربة، وإلى أربعين عاماً من التفاوض مع العدو، من أوسلو إلى غيرها. فالسلام، كما نعلم، لا يعني تغييراً ديمغرافياً أو إعادة رسم خرائط، وإنما القضاء على الإيديولوجيات والسياسات التي قادت إلى نشوب النزاعات والحروب وتفشي العنصرية والعصبية والقتل والدمار والإرهاب.
أخيراً، حتى لو افترضنا المستحيل، أي انسحاب العدو الصهيوني إلى خط الرابع من حزيران عام 67، واستعيدت «الضفة» التي لا تشكل مساحتها أكثر من 20% من أراضي فلسطين «الانتداب»، فأي مكافأة هذه لشعب (بل 2% منه) عانى ما عاناه في نضال مستمر منذ منتصف القرن التاسع عشر، لنضال لم ينقطع منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً!