الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
الدولة الصليحيَّة (429-532هـ= 1037-1138م)، إحدى الدول المستقلَّة ببلاد اليمن، وكانت تدين بالمذهب الفاطمي الإسماعيلي، أسَّسها علي بن محمد الصليحي سنة (429هـ=1037م)، ودانت له بلاد اليمن كلِّه، وملك من بعده ولده المكرم بن أحمد، ثم ملك أبو حمير سبأ، وملكت بعده الملكة أروى السيِّدة الحرَّة، وانتهت بوفاتها سنة (532هـ=1138م).
علي الصليحي مؤسس الدولة:
يرجع تأسيس الدولة الصليحيَّة إلى أبي الحسن -وقيل أبو كامل- علي بن محمد بن علي الصليحي، وُلِد في مدينة قتر من أعمال حراز، وكان أبوه القاضي محمد الصليحي حاكمًا في حبل مسار (من أعمال حراز وهو أعلى ذروة في جبال اليمن)، وكان سُنِّيًّا شافعيَّ المذهب، وله الطاعة في رجال حراز، وهم أربعون ألفًا ببلاد اليمن، ونشأ عليٌّ في بيت علمٍ وسيادة، فقيهًا، توَّاقًا للرِّياسة، قرأ في صباه بمدينة “عدن لاعة”، وكانت أول موضع ظهرت فيه الدعوة العلويَّة باليمن، وهي غير “عدن أبين” الساحليَّة (كما في تاريخ اليمن لعمارة).
وكان الداعي الإسماعيلي عامر بن عبد الله الرواحي -أحد دعاة الفاطميِّين- يُلاطفه ويركب إليه لرئاسته وسؤدده وصلاحه وعلمه، فلم يزل عامر المذكور حتى استمال قلب ولده علي -وهو يومئذٍ دون البلوغ- حيث لاحت فيه مخائل النجابة، وقيل: كانت عنده حلية علي الصليحي في كتاب الصور، وهو من الذخائر القديمة، فأوفقه منه على تثقل حاله وشرف ماله، وأطلعه على ذلك سرًّا من أبيه وأهله.
وصحب عليُّ الصليحيُّ عامرَ بنَ عبد الله الرواحي، فمال إلى مذهبهم وتعلَّم منه أسرار الدعوة، حتى قال تقيُّ الدين المقريزي: إنَّه صار إمامًا فيه. وقال اليافعي: فلم يزل مشتغلًا بتلك العلوم الضلاليَّة الأوهاميَّة حتى صار فقيهًا في مذهب الباطنيَّة الإسماعيليَّة، منتصرًا في علم التأويل المخالف بمفهوم التنزيل، فلمَّا دنت من عامر الوفاة أسند أمر الدعوة إلى علي الصليحي، فقام بأمر الدعوة، وجعل يحجُّ دليلًا بالناس على طريق السراة والطائف خمس عشرة سنة، ويتألَّف منهم من يتوسَّم فيه الإقبال عليه، حتى كان له ستُّون نصيرًا من مختلف القبائل، حالفوه بمكَّة في موسم سنة 428هـ على الدعوة للمستنصر العبيدي الخليفة الفاطمي بمصر، وعلى الموت والقيام بالدعوة، ثم امتنع بهم في جبل مسار سنة 429هـ وتكاثر جمعه. قال الذهبي: “وآووا إلى ذروةٍ منيعةٍ برأس الجبل، فلم يتم يومهم إلَّا وقد أحاط بهم عشرون ألفا، وقالوا: إن لم تنزل وإلَّا قتلناك ومن معك جوعًا وعطشًا. فقال: ما فعلت هذا إلَّا خوفًا علينا وعليكم أن يملكه غيرنا، فإن تركتموني أحرسه، وإلَّا نزلت إليكم. وخدعهم، فانصرفوا عنه، ولم تمضِ عليه أشهر حتى بناه وحصَّنه، وأتقنه، وازداد أتباعه، واستفحل أمره، وأظهر الدعوة فيما بين أصحابه لصاحب مصر المستنصر”.
وعلى الرغم من قوَّة جانب أبي الحسن علي بن محمد الصليحي وسرعة انتشار دعوته وإجابة الكثير لها، فإنَّ كثيرًا من رؤساء اليمن أصحاب النفوذ المحلِّي والكثير من أمراء اليمن وسلاطينها من أهل السُّنَّة وأئمَّة الزيديَّة فيها، لم يرضخوا لحكمه إلَّا بعد معارك حربيَّة معه، ومحاولات كثيرة بذلوها للقضاء عليه.
قال الذهبي: “وكان يخاف من (نجاح) صاحب تهامة، ويُلاطفه، ويعمل عليه، فلم يزل به حتى سقاه سُمًّا مع جاريةٍ مليحةٍ أهداها له في سنة 452هـ، وكتب إلى المستنصر (سنة 553هـ) يستأذنه في إظهار الدولة، فأذن له، فطوى البلاد طيًّا، وطوى الحصون والتهائم، ولم تخرج سنة خمس وخمسين (455هـ) حتى ملك اليمن كلَّه، سهله ووعره، وبره وبحره، من مكَّة إلى عدن إلى حضرموت”.
واتَّخذ صنعاء مقرًّا له، وعمَّر بها قصورًا، وتجمَّع ملوك اليمن الذين أزال ملكهم بمسكنهم لديه فيها. قال الزركلي: وكان مقدامًا جبَّارًا شاعرًا فصيحًا، من دعاة الملوك. قال الفاسي في شفاء الغرام: “ومنها: أنَّه في سنة 455هـ حجَّ عليُّ بن محمد الصليحي صاحب اليمن، وملك فيها مكَّة، وفعل فيها أفعالًا جميلة من العدل والإحسان، ومنع المفسدين، واستعمل الجميل مع أهلها، وطابت قلوب الناس، ورخصت الأسعار، ودعوا له، وكان إذا جاز على جماعةٍ سلَّم عليهم، وكان ذكيًّا فطنًا لبيبًا، كسا البيت ثيابًا بيضاء، ودخل البيت ومعه الحُرَّة زوجته التي خُطِبَ لها على منابر اليمن. وقيل: إنَّه أقام بمكَّة شهرًا ورحل، وكان يركب فرسًا بألف دينار، وعلى رأسه العصائب. وإذا ركبت الحُرَّة ركبت في مائتي جارية، مزيَّناتٍ بالحُلِيِّ والجواهر، وبين يديها الجنائب بسروج الذهب”.
مقتل علي الصليحي:
وفي سنة 473هـ خرج علي الصليحي حاجًّا يُريد مكَّة في موكبٍ عظيم، في ألفي فارس، فيهم من آل الصليحي مائة وتسعون شخصًا، واستخلف على اليمن ولده المكرَّم أحمد، فلمَّا بلغ تهامة خيَّم في مكانٍ يُسمَّى “الدهيم” بظاهر المهجم، فاجأه سعيد الأحول وأخوه جيَّاش بن نجاح، وكان الصليحي قد قتل أباهما نجاحًا في جملة من قتل من ملوك اليمن، وكان أصحاب الأحول سبعين رجلًا رجَّالة، بيد كلِّ واحدٍ منهم جريدة في رأسها مسمار حديد، وتركوا جادَّة الطريق وسلكوا الساحل، فوصلوا في ثلاثة أيَّام، وكان الصُّليحي قد سمع بهم وأرصد لهم نحو خمسة آلاف من الحبشة، فاختلف طريقهم، ولمـَّا رآهم الصُّليحيُّ مع ما هم فيه من التعب والجوع والحفاء، ظنَّ أنَّهم من جملة عسكره، فقال له أخوه عبد الله: اركب فهذا والله الأحول، فلم يبرح الصليحي من مكانه، حتى وصل إليه الأحول، فقتله سعيدٌ بثأر أبيه، وقتل أخاه عبد الله وجميع بني الصليحي، وصالح بقيَّة العسكر، وقال: إنَّما أخذت بثأري، وذلك في 12 ذي القعدة سنة (473هـ=1081م)، وأسر زوجته الحُرَّة الصليحيَّة أسماء بنت شهاب وأخذها معه إلى زبيد، فأركبها في هودجها، وجعل أمام الهودج رأس زوجها ورأس أخٍ لزوجها قُتِل معه، وأقامت في الأسر ثمانية أشهر (أو سنةً كاملة) في زبيد، ورأسا زوجها وأخيه معلَّقان أمام طاقة سجنها.
المكرم أحمد الصليحي:
أحمد بن علي بن محمد الصليحي، ثاني ملوك الدولة الصليحيَّة باليمن، درس العلوم على العديد من علماء دولة أبيه، وكان فارسًا شجاعًا، تولَّى بعد مقتل أبيه سنة 473هـ، وأقام بصنعاء.
وفي بداية عهده، بدأَت الفتن وبدأ التَّمرُّد عليه في عددٍ من المناطق التي كانت خاضعة لولاية أبيه، فبدأَت القبائل تتمرَّد عليه واحدةً بعد أخرى؛ لعدم تعوُّدها الخضوع لدولةٍ مركزية، وكاد الأَمر يخرج من يده، لولا شجاعة عددٍ مِن قوَّاده؛ أَمثال: (أحمد بن المظفر الصليحي)، و(عامر بن سليمان الزواحي)، و(إسماعيل بن أبي يعفر الصليحي)، و(مالك بن شهاب الصليحي) الذين شدُّوا أَزره، ووقفوا معه في وجه القبائل الثَّائرة، حتى استقرَّت له الأمور في مدينة صَنْعاء.
وبقي موضوع أَسْرِ والدته في مدينة زبيد لدى (سعيد الأحول) يُؤرِّق مضجعه، ونصحه قُوَّاده بالتَّريُّث في الخروج إلى مدينة زَبِيد، إلى أن يتمَّ تأمين مدينة صَنْعاء من القبائل المجاورة وإخضاعها لسلطته، حتى لا تستغل خروجه إلى مدينة زَبِيد وتقوم بالثَّوْرة عليه، واستطاعت أُمَّه السَّجينة (أسماء بنت شهاب) بالحيلة أنْ توصِل كتابًا إليه، وذلك عن طريق رغيفٍ وضعت فيه الرِّسالة وأَعطته صدقةً لأحد السَّائلين، ولكي تُثير نخوة ابنها ليُسرع في نجدتها، أَخبرته في الرِّسالة أنَّها حبلى مِن العبد (سعيد الأحول) وعليه إِدراكها قبل الفضيحة.
فقرأ المكرم رسالة أُمِّه أمام النَّاس، فبكوا بكاءً شديدًا، واستثيرت حميَّتهم وعاطفتهم تجاه الملكة، فأعلنوا عزمهم على القتال معه، حتى اجتمع له عشرة آلاف فارس، فخرج إلى مدينة زَبِيد، وقد استعدَّ (سعيد الأحول) فيها بعشرين ألف فارسٍ حبشيٍّ، ووقعت معركة حامية بين الطَّرفين، قُتل فيها من أصحاب الأحول الكثير، وفرَّ (الأحول) ومعه بعض قوَّاده إلى البحر، عن طريق (باب النَّخل)، الباب الغربي لمدينة زَبِيد، بسفنٍ أعدَّها هناك، ولجأَ إلى جزيرة (دهلك) في البحر الأحمر.
وكان المكرم الصليحي أوَّل مَن وقف أمام نافذة سجن والدته، ورأى رأسَي والده وعمِّه مرفوعين على رمحين جوارها، ولمـَّا سلَّم عليها، لم تعرفه، فسألته: مَن أنت؟ فكشف عن وجهه -وكان ينزُّ عرقًا- فأصابته ريحٌ باردةٌ اختلج لها جانبٌ من وجهه، فأُصيب بالفالج (الشَّلل)، لكنَّه استعاد أمَّه، وبسط نفوذه على تِهامَة من جديد.
عُرف عنه حُسن السِّيرَة في الرَّعيَّة حتى ملك القلوب وأحبَّه النَّاس، وكان ملكًا شجاعًا شهمًا، جوادًا، همامًا، فارسًا، فصيحًا، خطيبًا، مشهورًا بالثَّبات والإقدام، وفي عهده توحَّدت السُّلطة المركزيَّة لليمن؛ إذ قام بالعديد من الإصلاحات السياسيَّة والاقتصاديَّة، ويُذكر له توحيد العملة بإِصداره الدِّينار الملكيِّ المنسوب إليه، وقد أثنى عليه الحاكم المستنصر الفاطمي وأرسل إليه كتابًا يقول فيه: “لقد سُررنا بك ومنك، وحمدًا لله على نجاح مساعيك وإصابة مراميك، فأنت خير خلفٍ لأبيك”.
ويذكر أنَّه كان كأبيه (إسماعيليًّا) باطنيًّا، تابعًا للدَّولة الفاطمية بمصر، غير أنَّه كان منصفًا للمذاهب الأخرى، محترمًا لأهل السُّنَّة والشيعة، لا يُؤذي أحدًا لفكره، ولا يمنعه من عملٍ في دولته، واعتكفَ آخر أيَّامه في حصن (التَّعْكَر) المطلِّ على مدينة جِبْلَة بناءً على مشورة الأطباء، لاشتداد مرض الفالج عليه، ونصحوه بالابتعاد عن مشاكل الحكم، ففوَّض زوجته الملكة (أَرْوى بنت أحمد الصليحي) بالقيام بكلِّ مسئوليَّاته، فكانتْ تنوب عنه في كثيرٍ من أُمور الحكم.
وقد ذكر المـُؤَرِّخ (محمد بن يوسف الجندي) في كتابه (السُّلوك في طبقات العلماء والملوك)، أنَّ زوجته الملكة أنجبت له ابنين: (محمَّدًا) و(عليًّا)، وذكر المؤرِّخ (عمارة بن علي الحكمي) في كتابه (المفيد في أخبار صَنْعاء وزَبِيد) أنَّ له من الأولاد أربعة: (محمد)، و(علي)، و(فاطمة)، و(أم همدان)، وقد مات (محمد) و(علي) وهما طفلان، وتزوَّجت (فاطمة) بالأمير (علي بن سبأ بن أحمد)، وتزوَّجت (أم همدان) بالأمير (أَحْمَد بن سليمان الزَّواحي).
وكان المكرم جوادًا ممدحًا، مدحه جماعة من الشعراء، وأجازهم الجوائز السَّنِيَّة، وللأديب الحسن بن علي القم فيه غرر المدائح، وعندما أُصيب بالفلج ففوَّض أمور اليمن إلى زوجته السيِّدة أروى بنت أحمد الصليحيَّة، وظلَّ كذلك إلى أن تُوفِّي بصنعاء، وقيل: في بيت بوس. وقيل: في حصن أشيح باليمن، في سنة (484هـ=1091م).
سبأ بن أحمد بن المظفر:
ولمـَّا مات أحمد المكرم تولَّى بعده ابن عمه أبو حمير المنصور سبأ بن أحمد بن المظفر ابن علي الصليحي سنة 484هـ، كان شجاعًا، كريمًا، شاعرًا، فصيحًا، قصيرًا، دميم الخلقة، أقام في حصن (أشيح)، وكانت حصون بني المظفر الصليحي مشرفة على زبيد، وأقرب إلى تهامة من سائر الجبال، وكان ابن عمِّه المكرم أحمد بن علي الصليحي قد ولَّاه تهامة، فقامت الحروب بينه وبين (جيَّاش بن نجاح) سجالًا، فكان يأخذ مدينة زبيد في فصلي الشتاء والربيع، ويأخذها (جيَّاش) في فصلي الصيف والخريف، وقد وقعت بينهما وقائع كثيرة، أشهرها يوم (الكظائم).
ولم يزل يتصاول مع (جياش) على ملك تهامة، حتى تُوفِّي الملك (أحمد بن علي الصليحي)، وأقامت زوجته الملكة (أروى بنت أحمد) ابنها الطفل خلفًا لأبيه، لكنَّه ما لبث أن مات، فتاقت نفس (سبأ) التزوُّج بالملكة، فبعث إليها خاطبًا، فكرهت ذلك، وأنكرته، فجمع جيوشه وسار لحربها، وكانت قد جمعت أكثر من جمعه، فوقعت بينهما حروبٌ كثيرة، لم ينل منها طائلًا حتى أخبره أخوها من أمِّها: (سليمان بن عامر الزواحي) بأنَّها لن تُجيبه إلى طلبه، إلَّا بأمرٍ من الخليفة الفاطمي بمصر المستنصر بالله، فترك قتالها، وأرسل رسولين إلى مصر، فأجابه الخليفة، وبعث إلى (الملكة) أستاذًا بكتابٍ منه يأمرها فيه بالزواج من صاحب الترجمة، وحين عرض الأمر عليها، قالت: “أمَّا كتاب أمير المؤمنين، فأقول فيه: إني أُلقي إلَيَّ كتابٌ كريمٌ، وأمَّا أنت يا ابن الأصبهاني -رسول (سبأ) إلى المستنصر الفاطمي- فما جئت أمير المؤمنين من سبأٍ بنبأ يقين، ولقد حرَّفتم القول عن مواضعه، فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون”.
وما زال وزراؤها يتلطَّفون إليها، حتى أجابتهم إلى العقد، فذهب إليها الأمير سبأ في جموعٍ كثيرةٍ إلى مدينة (جبلة)، من بلاد إب، وأقام شهرًا فأكرمت ضيافته، وأنفقت كثيرًا من أموالها، ورأى من شرف نفسها، وعالي همَّتها، ما جعله يُحقِّر نفسه، وندم على زواجه منها، ثم أرسل إليها سِرًّا يستأذنها للدخول إلى دارها، ليتوهَّم النَّاس أنَّه خلا بها، فأذنت له، وأرسلت إليه جاريةً من جواريها، ففطن إلى حيلتها، فلمَّا أصبح نادى بجموعه، وعاد راجعًا إلى حصنه، ولم يرها بعد ذلك اليوم، واستمرَّ يُقدِّم لها المساعدة حتى وافته منيَّته.
كان فارسًا مشهورًا، شجاعًا مذكورًا، جوادًا، متلافًا للمال، معدودًا من كرام العرب وأعفهم، وأعلاهم قدرًا، وأشرفهم همَّة. يُروى أنَّه ما وطئ أَمَةً قط، ولا خيَّب قاصدًا، وكان مقصودًا ممدوحًا، يقصده الشعراء فيُثيبهم الجوائز السَّنِيَّة، وربَّما مدحهم بشيءٍ من الشعر مع المثوبة الجزيلة.
وكان موته بحصنه (أشيح) سنة (492هـ=1099م)، وفيه وفي حصنه يقول الحسن بن قاسم الزبيدي، من أبيات:
إِنْ ضَامَكَ الدَّهْرُ، فَاسْتَعْصِمْ بِأَشْيَح *** أَوْ إِنْ نَابَكَ الدَّهْرُ، فَاسْتَمْطِرْ بَنَانَ سَبَأ
وقد مدحه كثيرٌ من الشعراء؛ منهم الشاعر (الحسين بن علي بن القم)، الذي قال فيه:
وَلَمَّا مَدَحْتُ الْهَزْبَرِيَّ ابْنَ أَحْمَـدِ *** أَجَازَ وَكَافَانِي عَلَى الْمَدْحِ بِالْمَدْحِ
وَعَوَّضَنِي شِعْرًا بِشِعْرِي وَزَادَنِي *** عَطَاءً فَهَذَا رَأْسُ مَالِي وَذَا رِبْحِي
شَقَقْتُ إِلَيْهِ النَّاسَ حَتَّى لَقِيتَــهُ *** فَكُنْتُ كَمَنْ شَقَّ الظَّلَامَ إِلَى الصُّبْحِ
فَقَبِحَ دَهْرٌ لَيْسَ فِيهِ ابْنُ أَحْمَــدِ *** وَنَزَهَ دَهْرٌ كَانَ فِيهِ مِنَ الْقُبْـــحِ
الحرة الصليحية أروى بنت أحمد:
السَّيِّدة الحُرَّة أروى بنت أحمد بن محمد بن جعفر بن موسى الصليحي، وتُعرف بلقب السيِّدة الحرَّة حتى غلب على اسمها في كتب التاريخ، زوجة المكرَّم أحمد بن علي الصليحي، وهي آخر الملوك الصليحيَّة في اليمن، نشأت في حجر أسماء بنت شهاب (أم المكرم الصليحي أحمد بن علي)، وتزوَّجها المكرَّم، وفلج، ففوَّض إليها الأمور، فاتَّخذت لها حصنًا بذي جبلة كانت تُقيم به شهورًا من كلِّ سنة، وقامت بتدبير المملكة والحروب إلى أن مات المكرَّم سنة 484هـ، وخلفه ابن عمِّه سبأ بن أحمد، فاستمرَّت في الحكم؛ تُرْفَع اليها الرِّقاع، ويجتمع عندها الوزراء، وتحكم من وراء حجاب، وكان يُدعى لها على منابر اليمن، فيُخطب أوَّلًا للمستنصر الفاطمي، ثم للصليحي، ثم للحُرَّة، فيُقال: اللَّهمَّ أَدِمْ أَيَّامَ الحُرَّةِ الكاملة السيِّدة كافلة المؤمنين. وهي التي دبَّرت في سنة (481هـ=1088م) قتل سعيد الأحول أحد قاتلي علي بن محمد الصليحي، والد زوجها.
ولمـَّا هلك المكرَّم الصليحي -وقد عهد بالملك إلى ابن عمِّه سبأ- كتب المستنصر العبيدي إلى الحرة: قد زوَّجتك بأمير الأمراء سبأ على مائة ألف دينار. فوافقت مرغمة، وسار إليها الملك سبأ إلى مدينة (جِبْلَة)، فأقام عندها شهرًا، فلم تُمكِّنه من نفسها، حتى استحقر نفسه وندم على الزَّواج بها، ورجاها أن تسمح له بالدُّخول إلى دارها -ولو ليومٍ واحد- لِيُوهِمَ النَّاس بدخوله عليها، فوافقت. ويُقال: إنَّها أرسلت إليه بجاريةٍ تُشبهها، وعرف ذلك، فرحل صبيحة اليوم الثَّاني، وظلَّت العلاقة بينهما على الورق فقط، لكنَّه لم يبخل عليها بأيَّة مساعدةٍ أو خدمةٍ فيما يخصُّ الدَّولة وشُئون الحكم.
ومات سبأ سنة 492هـ، وضعف ملك الصليحيِّين، فتحصَّنت الملكة أروى بذي جبلة، واستولت على ما حوله من الأعمال والحصون، وأقامت لها وزراء وعمَّالًا، وامتدَّت أيَّامها بعد ذلك أربعين سنة.
تميَّز حكمها بميزات عِدَّة؛ منها: الإصلاح والتَّعمير للحصون والمدارس وسواقي المياه، وكثرة الأوقاف لأعمال الخير، وقوَّة نفوذها في الدَّولة، وسيطرتها على مراكز القرار بذكاء وكرم، وحسن استغلال المال لتحريك القبائل في توجُّهها السِّياسيِّ والعسكريِّ وشُئون الدَّعوة، عدا في الفترة الأخيرة فترة شيخوختها، وحسن اختيارها للوزراء وذوي الكفاءات.
وهي تُعدُّ من زعماء الإسماعيليِّين، وكانت عارفةً بالمذهب الفاطمي الباطني، حتى أنَّ المستنصر بالله العبيدي كان يُرسل إليها كبار دعاته لتثقيفها بمذهبهم، ورفعها من درجة (الدُّعاة) إلى مقامات (الحُجج).
وقد تُوفِّيت الملكة أروى بذي جبلة ودُفِنت في جامعها وهو من بنائها، وذلك سنة (532هـ=1138م)، وعلى إِثر وفاتها دبَّ الضعف في جسد الدولة الصليحيَّة الإسماعيليَّة، وتفكَّكت أوصالها، وصار الأمر فيها إِلى الأمراء من آل زريع، وكانت الدولة الفاطميَّة في مصر تُعاني الانهيار أيضًا، وانتهى أمر الصليحيِّين تمامًا بعد أن غزا توران شاه أخو صلاح الدين الأيوبي اليمن سنة (569هـ=1173م).
خليك معناالمصدر: موقع قصة الإسلام