الصباح اليمني-مساحة حرة
احتل الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية مساحة كبيرة من الاهتمام الإعلامي، بحيث صارت، وهي المولودة في رحم الحركة الأكتوبرية التاريخية، تنافس مشهد التوحّش الصهيو – أميركي على أرض فلسطين. وبعيداً عن السرد الإنشائي والإخباري لتفاصيل الحركة الطلابية الأميركية، فإنّ الغوص فيها، وفي منطلقاتها وصيروراتها وآفاقها، تحتاج إلى طرح الفرضيات والإجابة عليها؛ فحقيقة الأمر أن هذه الحركة قد تتجاوز حدود الحركة (التضامنية) الاحتجاجية إلى مستوى اعتبارها حركة تاريخية تتحمّل عبء المسؤولية في رسم معالم العالم الجديد.ينبني ذلك على الآتي:
أولاً: إنّ حركة أكتوبر المجيدة، بطبيعتها، كانت هجومية، وتوقيتها من حيث إنها اشتبكت استراتيجياً، ومن موقع صفري، مع حركة أميركية إقليمية كانت قد بلغت مرحلة متقدّمة من الاكتمال والنضج. وكانت تحتاج إلى الاكتمال من خلال الإجهاز على القضية الفلسطينية عبر هجمة متّسقة ومنسّقة تطاول اللاجئين والضفة الغربية، لكنّ رادار المقاومة ومرصادها أوقعا هذه الحركة في كمين أكتوبر العظيم ليصيباها بأعطاب هائلة من الصعب إصلاحها. وقد فرض التوحّش الغربي الصهيوني إيقاعاً عالمياً متفاعلاً ضد المنظومة ينطلق من فلسطين ويحلّق في الفضاء الكوني.
ثانياً: تفاعلت مكونات السيستم بسرعة دعماً وإسناداً للكيان الصهيوني من أجل منع انهياره، وتبنياً للتوحش الصهيوني ضد غزة والشعب الفلسطيني، وهو ما أكد فرضية أن حركة السابع من أكتوبر العظيمة هذه إنما أصابت المنظومة بأكملها.
ثالثاً: وبالعودة إلى قانون نيوتون حول الفعل ورد الفعل، ولأن الفعل الأكتوبري، بتوقيته واستهدافه ونتائجه، تحوّل ليصير حدثاً تاريخياً، فقد كان لا بد من ردة فعل تاريخية. في هذا السياق، يمكن فهم الحركة الاحتجاجية التي طاولت العالم وأخذت أبعاداً مختلفة، وبمشاركة نخب كانت حتى السابع من أكتوبر في حالة من السكون والخمول، ما عدا الحركات الاجتماعية التي غطّت أوروبا وأميركا في السنوات الأخيرة، وفي القلب منها كانت الحركة الاحتجاجية التي تنطلق من الجامعات الأميركية.
رابعاً: طول أمد الحركة الاحتجاجية، ولا سيما في الولايات المتحدة، والتي يسجّل لها أنها سارت على إيقاع الحدث الأكتوبري ولم تهدأ حتى الساعة، متخذة أشكالاً مختلفة: تظاهرات، اعتصامات، إضراب عن الطعام، الانتحار حرقاً، محاصرة موانئ وشركات مصنّعة للسلاح، ملاحقة رموز الإدارة الأميركية، مقاطعة،… الخ.
إنّ استثنائية الحركة الطلابية الأميركية لا تنطلق من حقيقة مداها الزمني وشكل الاحتجاجات فقط، بل من حقيقة أن هذه الاحتجاجات شملت وغطّت كل مدن الولايات المتحدة، وأنها صناعة المجتمع الأميركي نفسه، وللاعتبارات الآتية:
أولاً: الانطباع الذي ترسّخ حول أن الديناميات المجتمعية الأميركية تستجيب للعناوين المحلية، أي أنها تهتمّ أكثر وتتحرّك أكثر تحت تأثير أولويات الإنسان الأميركي، وهو ما كان ملموساً أكثر في استطلاعات الرأي، وفي برامج ومشاريع المرشحين للرئاسة الأميركية ولمجلسَي النواب والشيوخ وحكام الولايات، وحتى الاحتجاجات ضد الحرب في فييتنام كانت تنطلق من تأثير الخسائر البشرية الأميركية في الحرب.
ثانياً: أن المجتمع الأميركي قد تقولب في إطار السردية الصهيو – توراتية، فضلاً عن تأثير اللوبي الصهيوني وقدراته الاستثنائية، ودور الكنيسة الإنجيلية التي تعتبر دعم وجود إسرائيل واجباً دينياً، ويستغرق الممارسات الدينية لأتباعها، لهذا كان التبنّي الدائم للإدارات الأميركية المتعاقبة لإسرائيل يلقى قبولاً شعبياً.
ثالثاً: خلال العقود السابقة كان التيار الشعبوي (أميركا أولاً)، أو بمعناه الفعلي والممارس «أميركا أو لا أحد»، يترسّخ ويتمدّد بحيث صار مساهماً كبيراً في صناعة الرأي العام، الأمزجة والميول، المواقف والاتجاهات، وهو ما كان يعني الانغلاق أكثر على الاعتبارات الأميركية وحدها، بما يشبه الحقبة التي كانت تسود قبل دخول أميركا كفاعل رئيسيّ على المسرح الدولي.
ليس من السهل خلق وعي شامل وعميق، أو بلورة مواقف وتحقيق انزياح كبير في الانتماء والمواقف، ولا سيما في مجتمع قام على التحيّز السلبي ضد الآخر، بحيث صارت هذه الممارسة السلبية ضد الآخر تقليداً، أو عرفاً، يمارس بوعي أو بلا وعي، وأحياناً يكون مشبعاً بعاطفة سلبية تستثيرها وسائل الإعلام، وتستنفره بطاقاته ضد الآخر، حتى ولو كان يتمثّل بممارسات فاشية عدوانية كالحالة الإسرائيلية.
هذا ما يلمسه الإنسان الفلسطيني بخاصة، وكل مظلوم في العالم، وهذا ما أكدته سرعة الاستجابة للكيان الصهيوني في محنته بعد السابع من أكتوبر (مرحلة الصدمة)، وهذا ما يفسّره الدعم الغربي غير المحدود للكيان الصهيوني، حتى ولو تمثّل في تزويده بأسلحة فتاكة تمعن في القتل والإبادة.
إنّ الحركة الطلابية الأميركية الحالية (شكلها، محتواها، استدامتها)، لا تتسق ومعايير العقل التقليدية (التحيز الغربي والأميركي المستدام على المستويين الرسمي والشعبي للكيان الصهيوني). فلو أنّ هذا الأمر طرح على العقل افتراضياً قبل السابع من أكتوبر، وقبل التوحّش الأميركي الصهيوني في غزة، حول السيناريوات المحتملة وردّ الفعل في أحداث مشابهة، لكان العقل اقترح السيناريوات الآتية:
السيناريو الأول: تأييد رسمي وشعبي للكيان الصهيوني
السيناريو الثاني: تأييد رسمي وصمت أو قبول شعبي
قد يذهب البعض مذهب الاعتراض، على اعتبار أن هناك حركات احتجاجية كانت تحدث في الولايات المتحدة والغرب، ضد الحروب العدوانية على غزة (سيف القدس)، وهو منطق صحيح، ويصحّ اعتبارها مقدّمات أو علامات أولية على تغيّر ما يحدث في الرأي العام الأميركي والغربي، ويمكن اعتبار الحركة الاحتجاجية في الشارع الأميركي، كما في الجامعات الأميركية، مرحلة متقدمة أكثر في الفعل المضاد للعدوان الصهيوني وللسياسات الأميركية الداعمة.
غير أن ذلك قد يبدو قاصراً عن إدراك جوهر الحركة ومآلاتها، ويمكن ضبط هذا الاستخلاص على الآتي:
أولاً: سرعة تسييل ردّة الفعل أو الحركة الاحتجاجية في إطار التنافس الانتخابي في الانتخابات الرئاسية، كما تظهره استطلاعات الرأي. وهو ما يحتمل النظر إليه باعتباره ناتجاً من جهوزية مسبقة، ودليلاً على تحوّل ما في الوعي، ليس من السهل قياسه الآن. وهو ناتج استثنائي؛ أن يتحوّل العامل الفلسطيني إلى فاعل ومؤثّر في الانتخابات الرئاسية، وهو ما كان حكراً على الكيان الصهيوني حتى السابع من أكتوبر.
ثانياً: بدايات كسر رهاب المعاداة للسامية التي كانت قد تجاوزت الحدّ القانوني إلى الأدبي، الأخلاقي والقيمي، في المجتمع الغربي عموماً، والأميركي خاصة، وهو ما كان يمنع أو يعيق كثيرين عن التعبير عن رأيهم بما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
ثالثاً: اتساع نطاق مشاركة الفئات الاجتماعية وانضمام نخب من نواب، علماء، مفكرين، فنانين، أدباء، شعراء، أساتذة جامعات،… وانخراط متزايد للأميركيين البيض، فضلاً عن مشاركة ملموسة لليهود. فالثابت من التجارب السابقة أن الأميركيين السود والهاسبانيك (من أصول لاتينية)، هم الأكثر استعداداً للتعاطف مع الشعب الفلسطيني وقضيته، وهو أمر يستحق الانتباه.
رابعاً: الحفاظ على زخم الحركة الاحتجاجية، وهو ما يستنتج من التظاهرات التي تشهدها المدن الأميركية وعدد المشاركين في الأنشطة الاحتجاجية، والذي ينبئ بأن الحركة الاحتجاجية خرجت عن كونها مجرد رد فعل عاطفي.
خامساً: أن مقولة أن التراكم الكمي يولّد تغييراً نوعياً يمكن استخدامها للقياس على الحالة الأميركية، فطول أمد الحركة الاحتجاجية، والانخراط المتزايد للنخب وتنوع الفئات الاجتماعية، هي أمور لافتة، لكن ينبغي الالتفات إلى الطابع العصياني الذي بات يحتل مساحة متزايدة في حركة التفاعل الأميركية على المستوى الشعبي والنخبوي ضد العدوان الصهيو – أميركي على غزة والشعب الفلسطيني. فاحتلال الميادين الجامعية وإعلانها مناطق محرّرة، تعود بنا إلى العصر الذهبي للحركات الثورية، في النصف الأول من القرن العشرين.
سادساً: المحتوى السياسي الموحد للحركات الاحتجاجية، والتي تتأسس على العناوين الآتية:
• رفض العدوان على غزة
• تبنّي مصطلح الإبادة للعدوان الصهيوني
• اتهام الإدارة الأميركية بالمشاركة في القتل والإبادة
• رفض تزويد الجيش الصهيوني بالسلاح
• تشبيه الممارسات الصهيونية بالممارسات الفاشية والنازية
• تبنّي المقاومة وإن كان بشكل غير مباشر أو ضمني
• مقاطعة البضائع الإسرائيلية والشركات الداعمة لإسرائيل
إزاء ما تقدّم، يطرح سؤال: هل هي حالة مؤقتة أم حاصل تراكمي يؤدي إلى حالة تتجذّر في المجتمع الأميركي ويمكن تسييلها لاحقاً في الحياة السياسية؟ والسؤال الثاني الذي يليه: ما الذي يدفع عشرات الآلاف من الطلاب وعشرات الجامعات والمعاهد الجامعية للانخراط في الحركة الاحتجاجية، والعناد في مواجهة التهديدات والحملات الإعلامية، وعدم التراجع؟ هل هو مجرّد تعاطف مع الشعب الفلسطيني إزاء الوحشية الاستثنائية الممارسة ضدّه، أم أن الأمر يحتمل أكثر من ذلك؟
إن هذه الأسئلة، وغيرها، شغلت الكثير من المراقبين والمتابعين، واستسهال الإجابة قد يكون مغامرة غير محمودة وتقود إلى استخلاصات غير حاسمة، غير أن ذلك لا يجب أن يمنع طرح فرضيات وتأكيدها بالأدلة والحقائق، ربما تساعد أكثر في ترقية برامج تيار المقاومة العابر للجغرافيا السياسية.
إنّ ما حدث في غزة لم يشهد له التاريخ الحديث مثيلاً؛ الاستفراد بمجموعة كبيرة من السكان المدنيين، والإمعان في عملية القتل والتدمير، استخدام منتهى القوة لتحقيق منتهى القتل والتدمير، وهذه العملية كانت تنقل عبر البث الحي والمباشر، غير أن ذلك لا يكفي لتفسير حركة طلابية ونخبوية وتتمدّد. لقد شهدت دول الغرب، ولا سيما الدول الكبيرة والقطبية منها، حركة احتجاجات مختلفة بعد الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالعالم، لم تكن مشابهة للتي تحدث الآن، من حيث التنوع، المدى الزمني، والاتساع الجغرافي.
وإذا كان منتهى القتل والتدمير والإبادة المستدامة على مرأى العالم، عملَ كمحفّز لوعي متراكم، فإنه، بحد ذاته، قابل للتحول إلى جوهر لقضية ببعد كوني. قضية تكون الأساس في استعار النضال ضد السيستم الإمبريالي المتوحّش، وهو ما يستعيد أبجديات الفكر الثوري التغييري. في السنوات الأخيرة، بدا أن هناك شرخاً يتزايد بين السيستم وجمهوره المباشر. وكل ماكينة الإعلام المنتجة للرأي العام والتي تعمل على صناعة الأمزجة والميول والتأثير بالمواقف وتوجيهها، لم تعد تحقّق النجاحات المطلوبة في إنتاج وعي منتمٍ أو خاضع أو منقاد للسيستم بشكل أعمى.
إنّ رفض العدوان على غزة، وإدانة وحشية النظام، وتوجيه الاتهام لكل المنظومة، ومن جمهورها تحديداً، وتوفّر محتوى سياسي واضح في التعبير عن الرفض، والربط بين العدوان والحرّية لفلسطين، وفّر الأساس لقضية تلتفّ حولها الملايين العابرة للحدود السياسية. في المقابل، فإنّ عناد المنظومة وفجورها في التعبير عن دعمها للكيان الصهيوني، وطول أمد الاحتجاج، كل ذلك يوفّر الأساس لتبلور قوة مجتمعية جديدة أساسها الشباب والنخب، وأكثر من ذلك قد ينضج شروط وعناصر التناقض والصراع بين طرفين.
وفي ظل عملية المخاض التي يعيشها العالم من أجل إعادة إنتاج النظام العالمي، فإنّ هناك قناعة تتخذ مكانها تدريجياً في الوعي، وترى بأن الصراعات بين الدول الكبرى ليست وحدها المقررة الحاسمة في شكل العالم الجديد، بل القوى المجتمعية داخل كل دولة، ولا سيما أن الصراع لم يعد محصوراً في مصالح الدول ونطاقات النفوذ والتأثير بمعناه التقليدي، بل السياسات والمبادئ، والقوانين والحقوق كتعبير عن مصالح الفرد، والتيارات والمجموعات والقوى المجتمعية الوليدة.
بمعنى آخر، إنّ هناك حالة من الطلاق بدأت تأخذ مسارها بين الجمهور والنخب الحاكمة وأصحاب المصالح. ولئن كانت القضية الفلسطينية والعدوان الوحشي على غزة قد كشفت حقيقة الإمبريالية بشكل نهائي لا رجعة فيه، فإنها، بدورها، قدّمت الفرصة من أجل تعميم ثقافة المقاومة وتوسيع ساحاتها بحيث تطاول العالم أجمع.
خليك معنا