الصباح اليمني_مساحة حرة|
لم تكن صورة الواقع السياسي العالمي أكثر تعقيداً، عبر التاريخ، مما هي عليه منذ مطلع الألفية الثالثة. يمكن أن نستطرد في تحليل الأسباب، لكننا على الأغلب سنخلص إلى نتيجة مرتبطة بالتحوّل الذي طرأ على النظام الرأسمالي بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، وسيطرة القطب الواحد، الرأسمالي، على مقدرات البشرية، وسلوك هذا القطب الواحد بما يتجاوز قدرته، منصّباً نفسه قدراً للعالم.
في سياق الصراع الذي يخوضه العالم للإفلات من قبضة الوحش الرأسمالي، برزت وتبرز صراعات محلية وإقليمية ودولية، تتبادل فيها الأطراف المتحاربة والداعمة الأماكن بما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية. في السودان، تتكثف الصورة المعقدة لتجعل مهمة الكاتب السياسي صعبة، إن حاول فهم الأشياء وترتيبها، أو الوصول إلى القراء بخلاصات ونتائج قريبة من الواقع.
في العاشر من نيسان/أبريل 2019، أطاح الجيش السوداني سلطة الرئيس عمر البشير، وأعلن وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف تشكيل مجلس عسكري انتقالي برئاسته يتولى حكم البلاد لمدة سنتين، وأعلن حالة الطوارئ. في اليوم التالي، أعلن أحمد عوض ونائبه كمال عبد المعروف استقالتهما من المجلس العسكري وإسناد رئاسته إلى المفتش العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان الذي عيّن الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائباً له.
تحكّم الجنرالان في مقدرات السودان من خلال منظومة الفساد القبلية – العسكرية المعتادة في السودان منذ إنشائه. تقاسما ثروات البلاد، وصنعا شبكة من العلاقات الإقليمية المتشابكة والمتداخلة دفعت البعض إلى الاعتقاد بأن تحالفهما قابل للصمود فترة طويلة، وأننا سنرى الجنرالين ينزعان بزتهما العسكرية ليصبحا حاكمَي البلاد “المدنييْن” كما هو متداول في معظم دول العالم الثالث. الشعب السوداني لن يجد فرقاً بين السابقين واللاحقين منذ الجنرال عبود وحتى اليوم، فهو شعب فقير يعيش في واحدة من أغنى دول العالم بالمقدرات والموارد، ثرواته منهوبة داخلياً وخارجياً، وأرضه مقسمة بين أمراء الحروب.
البرهان قريب من مصر، وحميدتي أرسل جزءاً من ميليشيا التدخل السريع لتحارب إلى جانب خليفة حفتر، حليف مصر الرئيسي في ليبيا. يتمتع الطرفان بعلاقات جيدة مع المحور السعودي – الإماراتي، حميدتي أرسل قوات إلى اليمن لتشارك مع الجيش الإماراتي، والبرهان تربطه علاقة جيدة مع السعودية. يرتبط الطرفان بعلاقات جيدة مع “إسرائيل” وإن كانت علاقة عبد الفتاح البرهان أكثر تطوراً بعد استقباله وزير خارجية “إسرائيل” في الخرطوم، في وقت أعلنت المدعية العامة الإسرائيلية أنها ستعتقل الجنرال حميدتي في حال زيارته “تل أبيب” بناءً على شكوى مقدمة من ممثل جيش تحرير السودان في “إسرائيل” وامتثالاً للمذكرة الدولية باعتقاله بتهم تتعلق برئاسته لميليشيا الجنجويد.
استولى حميدتي تدريجياً على تجارة الذهب في السودان، وتمكن من خلال شركته “مروى غولد” احتكار معظم عمليات شراء الذهب من المنقبين الأفراد الذين يستخرجون 85% من الذهب السوداني المستخرج سنوياً. تمثل الإمارات الوجهة الرئيسة للذهب السوداني الرسمي (10%) والمهرب (90%)، الذي يصلها عبر مطار الخرطوم، إضافة إلى مصر التي يتم تهريبه إليها براً، وهناك شائعات تقول إنه يصل إلى “إسرائيل” عن طريق صحراء سيناء. في العام 2018، بلغ إنتاج الذهب في السودان نحو 63.5 طناً، اشترى البنك المركزي السوداني 8 أطنان منها فقط، وصدّرت الشركات المعتمدة 1.4 طن، ليبلغ الفاقد 54 طناً أي ما نسبته 86% تقريباً.
دخلت روسيا على خط تجارة الذهب السوداني من خلال شركة “فاغنر” التي وقعت عقداً مع “مروى غولد” لحماية منشآتها وتنقلاتها. وتقول التقارير إن جزءاً من إنتاج الذهب السوداني خلال عام 2022 والذي بلغ 203 أطنان قد ذهب إلى روسيا. هذا الجزء يقدر بنحو 30 طناً، ويمكن أن يشكّل دعماً مهماً للعملة الروسية إذ تسعى روسيا إلى رفع حصة الذهب في احتياطياتها من الذهب والنقد الأجنبي.
سعي موسكو للحضور على المسرح السوداني ليس جديداً، فقد سبق للبلدين التوصل إلى اتفاقية تسمح لروسيا بإنشاء قاعدة بحرية ضمن قاعدة “فلامنغو” البحرية السودانية. وقد وصل خبراء روس وقاموا بفحص المنطقة ووضعوا خططاً مفصلة لإقامة قاعدة تتسع لـ 300 عسكري، وتستقبل سفناً وغواصات نووية روسية لغايات الصيانة. تعطلت الاتفاقية بعد سقوط نظام البشير. أعلن البرهان أن الاتفاقية تحتاج إلى مصادقة مجلس الأمة، غير الموجود، لذلك لا بد من تأجيلها لما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. صمتت روسيا والسودان عن الموضوع حتى شهر شباط/فبراير من العام 2023.
في شباط/فبراير من العام الجاري، تبادل مسؤولون سودانيون وروس الزيارات، وأعلن الجنرال حميدتي أن السودان سيمضي قدماً في اتفاقية قاعدة “فلامنغو” مع روسيا، وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن روسيا والسودان متفقتان على “التوجه نحو عالم ديمقراطي متعدد الأقطاب”. حسب صحيفة “الإندبندنت”، لم يكن السودان ينوي مغادرة موقعه كحليف للغرب، لكنه كان يبحث عن شروط أفضل لهذا التحالف تحقق المزيد من المكاسب لقطبَي السلطة، لكن هؤلاء لم يدركوا أن صدر الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، أصبح يضيق بالحلفاء الذين يلجأون إلى الابتزاز والمساومة باستخدام الورقة الروسية.
السودان لاعب أساسي في قضايا حوض النيل، وبشكل خاص قضية “سد النهضة”. تحتل الإمارات موقع المستثمر الأجنبي الرئيس في السد. أما مصر فتعدّ السد التهديد الأكبر لسيادتها وأمنها، لذلك وضعت قطعاً من سلاح جوّها في السودان في رسالة مباشرة مفادها أنها لن تتردد في الحفاظ على مصالحها. بدخول السودان نفق الحرب، وغياب دوره في المفاوضات كإحدى دول المصب، وبخروج الجيش المصري من السودان منذ اللحظة الأولى للمعركة، تفقد مصر قدرتها على فرض إرادتها على إثيوبيا التي تتجه نحو الملء الرابع للسد.
في السودان، هناك صراع محلي ضمن دائرة السلطة والفساد المعروفة في دول العالم الثالث، وصراع إقليمي على المياه تبدو فيه دول متحالفة سياسياً مثل مصر والإمارات متناقضة في مصالحها، وأخرى متفقة في المصالح مثل السودان ومصر متناقضة في السياسة. وهناك صراع دولي في السودان يتعلق بالذهب، وبالقواعد العسكرية على البحر الأحمر، وبالطريق البري بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي الذي تسيطر ميليشيات حميدتي على الحدود السودانية التشادية التي تمثل بداية هذا الطريق مروراً بتشاد، بلد حميدتي الأصلي، وصولاً إلى مالي حيث توجد مجموعات “فاغنر” الروسية بشكل لافت.
أزمة جديدة تربط مصير جزء من وطننا برحى الأزمات العالمية. عيون الجميع شاخصة إلى الغرب، وبدرجة أقل إلى الشرق. الفعل العربي غائب رسمياً وشعبياً. الجماهير الشعبية وقواها السياسية مترددة ولم تحسم خياراتها بعيداً عن المستعمر، والحكومات عاجزة ومكبّلة بقيود التبعية السياسية والاقتصادية. الحرب في السودان ستطول كما هي الحال في اليمن وليبيا، بين التردد والعجز يُنهب المزيد من خيرات السودان، ومياه مصر، وأموال السعودية والإمارات ويدفع المدنيون السودانيون الثمن من دمائهم.
خليك معناالمصدر: الميادين نت