كأي فتاة مدللة، كانت تعز تحلم بأن تكون لها ضفيرة تمتد الى العالم ويكون لها صيت الغانيات الفاتنات، لكن المليشيات سحبتها من شعر رأسها إلى أحلام أخرى لاتمت إلى مدنيتها ولا إلى ثقافتها بصلة. وهاهي تعز الآن، مدينة صلعاء بلا أمان ولا دولة وبلا أحلام ولا مستقبل واضح من أصله.
تعز الحالمة بأشياء أخرى تعيش حياتها اليومية الآن كأي أرملة جميلة وكسيرة ومقطوعة من شجرة، ومافيش كبير يمكن أن تلجأ إليه أو عاقل يفرع لها، أو هوية محلية يمكن لها أن تركن إليها لتحمي نفسها من مخالب التجاذبات والانقسامات، وكل طرف من الأطراف المسيطرة عليها يسحبلها وراءه، ويدهج بها من منكح إلى آخر، ومافيش في تعز الحالمة بأشياء أخرى عاقل يقودها إلى حيث تحلم.
المشكلة الكبيرة أن تعز الحالمة بأشياء أخرى لديها وفرة من الأبناء المنعثرين في كل حزب، وفي كل جبهة، وهم أناس مجتهدين صراحة، ويعملون بمثابرة عالية مع هذا الطرف أو ذاك، وهم دائماً لسان المعارك ووقودها الوفير والرخيص في سبيل تحقيق مصالح تلك الأطراف بإخلاص وبمهارة يفتقر إليها الآخرون. وحينما يكون الأمر متعلقاً بمصلحة مدينتهم ومحافظتهم، ينقسمون على بعضهم، ويخوضون في الملاسنات وتبادل الإتهامات، وتلقاهم في كل القنوات ومواقع التواصل الإجتماعي مدافعين عن قطر والسعودية والإمارات وإيران ولينين وعبد الناصر وحسن البنا، وكل واحد منهم متعبر فوق هيلوكس من حق الخبرة، وهات يانديف فوق راسك يا تعز!
وهذا طبع شمات لدى غالبية أبناء هذه المحافظة الكبيرة، مش من اليوم ولا من أمس، إنما من هو طبع تأصل فيهم من تاريخ طويل، نتيجة عقد الإضطهاد التي مورست ضدهم وجعلتهم يعيشون الحياة مجرد وفرة من البشر الذين يتمتعون بالحيوية والحماس وبالطاقات والمهارات المتنوعة، التي عادة ما تكون محفوفة بمشاعر الغبن والإحساس بالدونية.
وأخطر من ذلك كله إنك لا تجد في تعز الثقافة والمدنية والتجارة داعم مخلص للأحلام النبيلة والمتعلقة بروح التمدن والتعايش، ويصعب عليك لو تقلب تعز تحت فوق أن تجد فيها كبير يلتف الناس حوله في سبيل قضية واحدة أو هدف واحد، بل على العكس من ذلك، كلما سخر الله لتعز واحد كبير يمكن للناس أن تلتف حوله في سبيل قضاياهم المحلية، تجد أبناء تعز أنفسهم هم أول من يبطحوه، وينسفوا تاريخ أهالي أهله ويطلعوا فيه عيوب البغلة، وتلقاهم هم أنفسهم أول من يقولوا لك: مالك من عاره هذا الفاعل والتارك؟ ولنا في الإخوة حمود الصوفي وشوقي أحمد هائل نموذجين لكبارات تعز اللي عملوا كل ما بوسعهم لخدمة المحافظة وتطويرها، ولاقوا من الشتائم والاتهامات والعرعرة ما يكفي لأن نعرف كيف أن تعز الحالمة أصبحت مع الوقت مثل القطة التي تأكل أبناءها واحداً تلوا الآخر، في سبيل مماحكات السياسة وخزعبلاتها المريضة والسخيفة.
وهذا هو الأمر ذاته اللي جعلهم مجرد أشتات يتناحرون فيما بينهم البين، في سبيل الكفيل اللي يسخرون طاقاتهم الوفيرة تلك لإنجاح مشروعه، أكان الكفيل هذا حزب أو فئة أو ما كان، المهم أن يكون قادماً من خارج جغرافيتهم المحلية، لتشاهدهم وهم ينهشون بعضهم البعض، ويقتاتون على الشماتة من بعضهم البعض، حتى يتمكن صاحب المشروع القادم من خارج جغرافيتهم، لتراهم من بعدها يحصدون الخيبات، ويعودوا إلى موالهم العتيق: تعز مظلومة، تعز ماهليش، تعز تذبح!
واللي يشوف حال تعز اليوم، وما وصلت إليه أحوال الناس الطيبين فيها، وحجم الدمار والخراب الذي طالها نتيجة هذه الحرب العبثية، ونتيجة مسواقة مليشيا طرفي الحرب من الجانبين، ويزيد يشوف انقسام أبنائها ومثقفيها وكباراتها، وهم على عادتهم تلك، يقتنع تماماً أنها مدينة تسير إلى مستقبل غامض ومجهول، ومافيش بارقة أمل توحي بإن سكانها ونازحيها المشردين في الداخل والخارج يمكن لهم أن يعودوا إليها عما قريب.