الصباح اليمني_قراءات|
في الصباح أو بعد الغروب، إن هبت نسمات غربية لطيفة محملة ببرودة مياه البحر على سكان قطاع غزة، فإنها تستثني القاطنين في منطقة شمال شرقي بلدة بيت لاهيا (شمال).
هؤلاء لا يصلهم إلا رياح مشبعة بالروائح الكريهة وأسراب الباعوض والذباب، فالشمس هناك تشرق على أحد أكبر مكبّات النفايات في القطاع الفلسطيني المُحاصر إسرائيليًا منذ عام 2006.
يجاور مكب النفايات، الذي تحول إلى ما يشبه سلسلة تلال عملاقة، برك لتجميع مياه الصرف الصحي غير المعالجة، وهي تغرق المنطقة المحيطة بالحشرات والقوارض.
ويتسبب تسرب هذه المياه الملوثة إلى باطن الأرض بتلويث حوض المياه الجوفية، المصدر الرئيسي لمياه الشرب وري المزروعات شمالي غزة.
منع إسرائيلي
“لم يكن أمام بلدية بيت لاهيا خيار آخر للتخلص من النفايات ومياه الصرف”، كما يقول رئيس البلدية، “عز الدين الدحنون”.
ويوضح “الدحنون”، في تصريح للأناضول، أن “إمكانيات البلدية المحدودة والحصار الإسرائيلي أفقدها كافة الخيارات للتعامل مع هذه المكرهة الصحية”.
وتحاصر (إسرائيل) غزة، حيث يعيش أكثر من مليوني نسمة، منذ أن فازت حركة “حماس” بالانتخابات التشريعية الفلسطينية قبل 12 عامًا.
ويضيف: “لا نستطيع ترحيل النفايات إلى المكب الرئيسي في منطقة جحر الديك وسط قطاع غزة، فالشاحنات التي لدينا قديمة للغاية وتحتاج إلى صيانة دائمة”.
ويشدد على أن “الاحتلال الإسرائيلي يمنع دخول قطع الغيار اللازمة لصيانة الشاحنات إلى القطاع منذ عام 2007، كما يمنع استيراد شاحنات جديدة”.
ويتابع: “هناك ما يزيد على 120 ألف طن من النفايات الصلبة شمال شرقي بيت لاهيا، وهذه الكمية تزداد يوميًا”.
ويزيد بأن هذا “الأمر يتسبب بتلويث الهواء ومياه الخزان الجوفي التي تتسرب إليها العاصرة السامة للنفايات”.
كما أن “ضخ المياه العادمة إلى برك التجميع قرب مكب النفايات دون معالجتها يساهم في تلويث البيئة، إذ تتسرب مياه الصرف إلى باطن الأرض وتمتزج بالمياه الجوفية”، بحسب “الدحنون”.
ولا تستطيع كافة بلديات غزة معالجة معظم كميات المياه العادمة؛ بسبب أزمة كهرباء بدأت في 2006، إثر استهداف طائرات إسرائيلية لمحطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع.
ويضيف “الدحنون”: “لدينا محطة لمعالجة المياه العادمة، لكن لا نتمكن غالبًا من توفير التيار الكهربائي لتشغيلها”.
ويوضح أنه “طوال السنوات الماضية كان التيار لا يتوفر إلا لما بين 4 و6 ساعات يوميًا، وإمكانيات البلدية المادية ضعيفة، فلا تستطيع توفير وقود لتشغيل مولدات كهرباء لساعات طويلة”.
مواد مشعة وتجريف
لعل أكثر ما يزيد خطر التلوث في بيت لاهيا هو أن البلدة تُعتبر سلة خضروات القطاع، فأراضيها الزراعية خصبة وتشتهر بزراعة خضروات عديدة، وكذلك الفراولة والتفاح والحمضيات والزيتون.
المياه العادمة والنفايات الصلبة ليست المصدر الوحيد للتلوث في غزة، فبين عامي 2008 و2014 شنت (إسرائيل) 3 حروب على القطاع ألقت خلالها آلاف الأطنان من المواد المتفجرة.
كما اجتاح الجيش الإسرائيلي، خلال هذه الحروب، مناطق واسعة من القطاع، وجرف آلاف الدونمات (الدونم يساوي ألف متر مربع) من الأراضي الزراعية.
ويقول رئيس بلدية بيت لاهيا، إن الآليات العسكرية الإسرائيلية جرّفت معظم الأراضي قرب الحدود الشمالية والشرقية لغزة، وقطعت آلاف الأشجار المثمرة، ما غيّر طبيعة تلك المناطق.
ويعتقد “الدحنون” أن (إسرائيل) استخدمت موادًا مشعة في القنابل التي استهدفت غزة خلال الحروب الثلاثة الماضية؛ ما ساهم في تلويث التربة.
ويوضح أنه يستند في اعتقاده إلى نتائج تحاليل مخبرية لعينات من التربة أُرسلت إلى مختبرات خارج الأراضي الفلسطينية.
3 حروب
بلغة الأرقام يفضل “بهاء الأغا”، مدير عام حماية البيئة في سلطة جودة البيئة الفلسطينية (حكومية) بغزة، الحديث عن استهداف (إسرائيل) لبيئة القطاع، خلال حروب 2008 و2012 و2014.
يقول “الأغا” للأناضول، إن (إسرائيل) استهدفت غزة خلال هذه الحروب بنحو ثلاثة آلاف طن ذخائر وقذائف تحتوي على مواد سامة للتربة وملوثة للبيئة ولخزان المياه الجوفية.
“خلال توغلها بالمناطق الشرقية والشمالية للقطاع، في الحرب الأخيرة، جرفت الآليات أكثر من 34 ألف و500 دونم من الأراضي الزراعية، واقتلعت نحو 280 ألف شجرة”، بحسب “الأغا”.
كما أحدثت الغارات التي شنتها الطائرات والمدفعية الإسرائيلية على الأراضي الزراعية في أنحاء القطاع، خلال الحرب الأخيرة، أكثر من 3500 حفرة عميقة.
هذه الحفر، بحسب “الأغا”، “تكون عادة مشبعة بمواد سامة تتلف التربة، ويتسبب امتزاجها بمياه الأمطار وتسربها للخزان الجوفي بتلويث المياه الجوفية المغذية الأراضي الزراعية والسكان”.
ويلفت إلى أن “الجيش الإسرائيلي يمنع الفلسطينيين من زراعة أراضيهم قرب السياج الحدودي الفاصل بين غزة و(إسرائيل)، وهي تشكل نحو 5 بالمائة من مساحة القطاع البالغة 365 كم²”.
تلويث المياه الجوفية
القنابل ليست وحدها الملوثة للتربة في غزة، إذ دمرت القوات الإسرائيلية خلال حربها الأخيرة نحو 12 ألف وحدة سكنية.
ويقول “الأغا” إن “ركام هذه المنازل يتسبب بتلويث التربة وزيادة ملوحتها وما يرشح منه إلى باطن الأرض بفعل مياه الأمطار يلوث بشكل كبير المياه الجوفية”.
ووفقًا لأحدث إحصائية صادرة عن سلطة المياه الفلسطينية (حكومية)، فإن “نسبة التلوث بالمياه الجوفية في غزة وصلت 98%”.
وتفيد الإحصائية بأن نسبة العجز بالمياه في غزة بلغت 110 ملايين متر مكعب سنويًا، من أصل 200 مليون متر مكعب من المياه يحتاجه القطاع.
وفي يوليو/تموز 2017، حذّرت الأمم المتحدة، في تقرير لها، من استنفاد مصدر المياه الوحيد (الجوفية) في غزة بحلول عام 2020، ما لم تُتخذ إجراءات فورية.
وإن كانت بلدية بيت لاهيا تضخ المياه العادمة إلى برك خاصة، فإن بلديات أخرى تضطر إلى تجميع هذه المياه وضخها إلى البحر دون معالجة أو بمعالجة جزئية.
ويوضح “الأغا” أن “أزمة الكهرباء، المُتسبب فيها الاحتلال، أفقدت البلديات قدرتها بشكل شبه كلي على معالجة مياه الصرف الصحي، ما أجبرها على ضخها إلى البحر مباشرة”.
ويضيف أن “120 ألف متر مكعب من المياه العادمة يتم ضخها يوميًا إلى البحر دون معالجة أو بمعالجة جزئية، وهذا الكمية تسببت بتلوث 60 إلى 70% من الشاطئ”.
تدمير البنية التحتية
ضمن استهداف (إسرائيل) الممنهج للبيئة الفلسطينية، دمر جيشها عام 2014، ثماني محطات لضخ المياه وأخرى لتنقيتها؛ ما أثر على وصول المياه إلى أكثر من 700 ألف مواطن بغزة.
وتسبب تدمير البنية التحية في غزة، خلال الحرب الأخيرة، بتلويث المياه الجوفية والشواطئ، بحسب تقرير أصدره مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بالأراضي الفلسطينية عام 2014.
وأفاد بأن نحوا 70% من منشآت المياه ومعالجة الصرف الصحي تم تعطيلها، عبر قصف إسرائيلي مباشر أو بسبب انقطاع الكهرباء عنها، إثر استهداف (إسرائيل) لمحطة توليد الكهرباء.
وأوضح أن الجيش دمر آلاف الدفيئات الزراعية والحقول والمزارع المخصصة لإنتاج الخضروات والفواكه واللحوم، ما يُضر بالأمن الغذائي ويساهم بتلويث البيئة بجثث الحيوانات النافقة.
وحذّرت الأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول 2015، من أن قطاع غزة سيكون منطقة غير صالحة للحياة بحلول عام 2020؛ بسبب التلوث البيئي والأوضاع الاقتصادية لسكان القطاع.
المصدر: الأناضول
خليك معنا