يظهر جنوب اليمن، اليوم، الأقرب إلى الانزلاق نحو سيناريوهات شبيهة بما هوى إليه جنوب السودان. لم يفعل تحالف العدوان، الذي تقوده السعودية في اليمن، أكثر من تأجيج نيران الكراهية في هذا الشطر من البلاد ضد كل ما هو شمالي. صبت دول التحالف الزيت على نيران قضية «مركز شمالي» و«طرف جنوبي» (هي واحدة من معضلات عديدة ينوء تحتها اليمنيون)، يعانيها اليمن منذ دخول شطريه في وحدة اندماجية عام 1990، مستغلة عصبية الفصائل الانفصالية في الحراك الجنوبي، وخفة خطابها السياسي، لتصنع «نصراً» عجزت عنه قواتها الجوية. بكل نزق وطيش، وبعيداً عن أي حسابات وطنية أو حتى موضوعية، انجرّت تلك الفصائل إلى القتال تحت راية تحالف العدوان، مجلية مفارقة شديدة الغرابة قوامها الترحيب بالغازي السعودي الإماراتي ورفض أبناء الجلدة وتعميق الخلافات معهم بل واختلاقها.
رفضٌ ترافق مع العزف بشكل متواصل على أنغام انقسامات هوياتية قومية وطائفية، تتنوع ما بين «يمن مطلع ــ يمن منزل»، «يمن زيدي ــ يمن شافعي»، «يمن شمالي ــ يمن جنوبي» وغيرها. تحسست القوى الشمالية الوطنية خطورة المرحلة، وآثرت الابتعاد عن ذلك المستنقع ريثما تهدأ النفوس، لكن ماذا كانت النتيجة؟ لم يرتدّ الجنوبيون إلى قوالب «نصف حزبية» كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي، حينما انقسمت اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي متسببة بصراع دام وتصفيات شنيعة، بل بدا أنّ تلك الأطراف عادت إلى أصغر الهويات وأشدها ضيقاً، إلى ما قبل قيام «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية» (سابقاً)، حيث كانوا لا يزالون رعايا في ظلّ سلطنات ومشيخات صغيرة تابعة للاستعمار البريطاني.
يرتد اليمنيون الجنوبيون اليوم إلى أصغر هوياتهم وأشدها ضيقاً
هكذا، تأججت المناداة بـ«الحضرمية»، و«الشبوانية»، و«اللحجية»، و«الأبينية»، و«العدنية»، و«الضالعية»، و«اليافعية». مناداة لا تقتصر على الجانب الكلامي، بل أضحى لصاحب كل من تلك الدعوات قوات عسكرية وأمنية يستخدمها أداة في حجز حصة من السلطة «الشرعية» المتهافتة، أو في أحسن الأحوال (في المناطق المتقدمة لناحية الوعي السياسي مقارنة بغيرها كحضرموت) للدفع باتجاه مشروع «انسلاخي».
في عدن، تتوزع المعسكرات بحسب الانتماءات المناطقية، ويُعدّ أبرزها معسكر جبل حديد الذي يهيمن عليه «أصحاب» الضالع، ومعسكر الحماية الرئاسية المفروز لـ«أصحاب» أبين، ومعسكر «الحزام الأمني» المحسوب على «أصحاب» يافع. أما في شبوة، فتبرز ميليشيات سلحتها ودربتها الإمارات تحت مسمى «النخبة الشبوانية» تتولى مهام أمنية على الشريط الساحلي وحول المنشآت الحيوية. وفي حضرموت، تجد مكونات سياسية واجتماعية وسلطوية الفرصة سانحة لاستعادة حلم «دولة حضرموت»، مستغلة قوة ميليشيات شكلتها الإمارات، كذلك، تحت مسمى «النخبة الحضرمية»، وسيطرة الرجالات الموالين لأبو ظبي على عدد من الموارد الحيوية.
ما بين أولئك جميعاً لا مشتركات، بل خلافات حادة تُرجمت توترات واشتباكات في غير منطقة، ولا يُستبعد أن تتدحرج كرة نارها في المرحلة المقبلة، تماماً كما لا يُستبعد أن يندلق عنف التنظيمات الإرهابية، التي تعمل على جمع أوراقها بهدوء، في أي لحظة، وتتوسع رقعة نفوذها. سيناريو من شأنه، إذا ما تحقق، إتمام المشهد السوداوي الذي يتشكل في عدن خصوصاً والجنوب عموماً، في ظلّ أوضاع اقتصادية متدهورة هي الأسوأ، يتواصل فيها انقطاع رواتب الموظفين والمتقاعدين على الرغم من نقل البنك المركزي إلى عدن، وتنعدم أبسط وجوه الخدمات، لا سيما الكهرباء.
لا أفق
مثلما تم فرض خيار الانفصال في جنوب السودان تحت وطأة الحرب الأهلية والتدخلات الخارجية وهشاشة المركز، يُراد اليوم جر العراق إلى الأتون نفسه بدعوى، يرددها مسعود البرزاني دائماً، مفادها بأن «الحدود الجديدة في المنطقة تُرسّم بالدم». كما يُراد، في حالة جنوب اليمن، تشطير الدولة في ظل العداون السعودي والاستثمار الإماراتي في الخلافات وتوقد السعار المناطقي والطائفي المتأسس على خلافات تاريخية. سيناريوهات «انتحارية» لن تفضي، في حال تحققها، إلا إلى طريق مسدود. ذلك أن مريديها لا يجتمعون إلا على «مشتَرك» عاطفي، تحركه بالنسبة إليهم فرصة لتصفية الحسابات والتحرر من القهر. ولذا، سرعان ما سيندفع هؤلاء، بعد نيل مطالبهم، إلى التناحر والتدمير الذاتي والصفرية والتلاشي.