الصباح اليمني_مساحة حرة
شكّل التوسّع في التعليم الحكومي المجاني بمختلف مستوياته جزءاً من العقد الاجتماعي الشعبوي الذي اعتمدته الأنظمة العربية مع جمهورها منذ ستينيات القرن العشرين. وطبّقت الحكومات الاشتراكية-الديموقراطية الغربية مبدأ الحماية أو الرعاية الاجتماعية للمواطنين (social protection) كحق لهم حتى خروجها من الحكم في مطلع ثمانينيات ذلك القرن. ومن ضمن ذلك، مجانية التعليم لهم جميعاً (إيفانز وسيويل، 2013 ؛ داغر، 2016). وهو ما أكسب التعليم الحكومي شرعية على مستوى العالم. وأحاقت بتوسّع التعليم الحكومي العربي شروط غير تلك التي عرفتها الديموقراطيات الغربية. ولقد كانت المشكلة أن التوسّع لم يحصل بنيّة إطلاق سيرورة «تعلّم تكنولوجي» في البلدان العربية. ولم يكن ممكناً أن يُفضي توسّع التعليم من دون «تعلّم تكنولوجي» إلى أي مكان على صعيد بناء المقدرة الذاتية.
وتلقي هذه القراءة الضوء على نقطتين رئيسيتين: العلاقة السيئة مع اللغة الأجنبية وغياب التدريس بها في البلدان العربية، وغياب أي علاقة بين التعليم والتعلّم التكنولوجي في هذه البلدان.
أولاً: مسألة اللغة
1. توسّع التعليم الحكومي:
كان ألن ريتشاردز قد أشار في تقريره في مطلع التسعينيات إلى توسّع التعليم العالي الكبير في مصر خلال السبعينيات وإلى تراجع مستواه بسبب نقص التجهيزات والموارد البشرية (ريتشاردز، 1992: 2). وقد أرست الحقبة الساداتية النظام التعليمي الذي بات قائماً مع كل سلبياته. وأضافت الباحثة محيا زيتون تضاعف عدد الطلاب 4 مرات بين 1975 و2002 وتراجع أعداد من يرسلون للدراسة في الخارج والاستعاضة عنهم بخريجي الدراسات العليا في مصر لتكوين هيئات التدريس (زيتون، 2006: 130). وقدّم الباحث حسان ريشة عرضاً شيّقاً لتوسّع مؤسسات التعليم العالي في سوريا (ريشة، 2006). واعتمد تعبير «ديموقراطية التعليم» لوصف التوسّع الأفقي للجامعات خلال 1970-2000.
وهناك عدد من البلدان العربية التي شهدت تضاعف عدد الطلاب الجامعيين مرّات عدة خلال العقود الماضية. وقد أُنشئَت خلال الربع الأخير من القرن العشرين 90% من جامعاتها. وكانت جامعات القطاع العام لا تزال عام 2010 تستقطب 90% من الطلاب العرب (واتربري، 2020: 25). ورأى الباحث الكبير جون واتربري أن القاسم المشترك بين كل الجامعات العربية هو إعطاء الأولوية لعنصري الكمّ والكلفة، بمعنى قبول أكبر عدد من الطلاب بأقلّ كلفة ممكنة. وذلك على حساب العنصر الثالث الذي هو كفاءة الخريجين (واتربري: 11).
وقد انتقلت نسبة الطلاب الذين يتابعون دراستهم في العلوم البحتة والتطبيقية في مصر من 44% عام 1973 إلى 22% عام 1999 (زيتون: 127). وخلال العقد الأخير، كان 8% فقط من الطلاب العرب يتابعون دراستهم في تخصّصات الهندسة (واتربري: 38). ولماذا قد يهتم الطلاب بهذه العلوم إذا كان ليس لذلك أي مردود على صعيد سوق العمل؟ أي إن المشكلة هي في الطلب الضئيل على هذه التخصّصات لأن ليس ثمة استثمارات حكومية أو خاصة في هذه المجالات. وتقتضي التخصّصات في العلوم الإنسانية والاجتماعية كما تُدرّس جهداً أقل من الطلاب في المتابعة وتحضير الدروس. ولم يؤدِ ارتفاع عدد الطلاب فيها إلى تحسّن مستوى التدريس بل العكس.
2. ترجمة الكتب إلى العربية:
لم يطلب المصلحون في اليابان خلال حقبة ميجي أواخر القرن التاسع عشر من اليابانيين أن يتخلّوا عن لغتهم للدخول بقوة وفعالية إلى الحداثة. وجدوا الحلّ لمشكلة التعرّف إلى النتاج العلمي الغربي واستيعابه بعقد اتفاقيات مع دور النشر الغربية لإصدار نسخة باليابانية لكل كتاب علمي يصدر عنها. أي إن الدولة كانت المبادر لحل المشكلة جذرياً ولم تنتظر مبادرات من هنا وهناك تأتي من القطاع الخاص. وذكر تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية لعام 2003 أن اليابان تُصدِر كل عام ما يوازي 30 مليون صفحة من النصوص المترجمة من اللغات الأجنبية (برنامج، 2003: 67).
ولا يُترجَم في العالم العربي بأكمله سوى بضع مئات من الكتب كل عام، وما يوازي 20% فقط مما يُترجم في بلد صغير كاليونان (برنامج: 67). وأورد الباحث هوارد باك في عداد أسباب نجاح الدول الآسيوية وفشل الدول العربية في نقل التكنولوجيا، الضعف الشديد في ترجمة الكتب إلى العربية (باك، 2008: 12). وذكر نقيب دور النشر في لبنان في ندوة «المركز العربي» أن ما صدر بالعربية منذ أن بدأ طبع الكتب، لا يتجاوز المليون كتاب. وهو الرقم ذاته لعدد الكتب التي تصدر كل عام فقط بالإنكليزية (المركز، 2023).
3. اللغة المعتمدة للتدريس:
لا أحد من الباحثين الذين يعالجون موضوع الجامعات يتناول صلب المشكلة في الجامعات العربية. وهي مشكلة استخدام المراجع باللغة الأجنبية والأجنبية كلغة تدريس. وهناك إغفال كامل لهذا الموضوع في البلدان التي عرّبت مناهجها وتعتمد العربية لغة وحيدة في التدريس كما لو كانت إثارته من المحرّمات.
وثمة في قراءة الباحثة زيتون نقد لعدد من المؤشرات المعتمدة لقياس جودة التعليم. وهناك نقد لأسلوب التلقين واعتماد الأستاذ كتاباً مرجعياً واحداً للمقرّر هو غالباً من إعداده (زيتون: 113). وليس هناك غوص أكثر في محتوى ما يتم إعداده من قبل الأساتذة لتدريس طلابهم، خصوصاً لجهة المراجع المستخدمة وحصة الأجنبية منها. وقال الدكتور ريشة إن الإصلاحات التي اعتمدت بدءاً من عام 2000 وضعت تحسين العملية التعليمية في صلب هذه الإصلاحات. ولم تسمح قراءته برصد مفاعيلها (ريشة، 142). ويلتزم بعض الباحثين بحدود في نقدهم لتجربة التعليم العالي العربية تجعل الأبحاث التي يعدّونها بمنزلة لزوم ما لا يلزم.
ولقد كان العالم العربي مسرحاً لتجارب متناقضة خلال العقود الماضية. ومنها تجارب متأخّرة في تعريب التعليم بقرار رئاسي كما في مطلع عهد عمر البشير في السودان. وجرى التخلّي تدريجياً عن الاندفاعة الأولى للتعريب المنتظم للكتب وللتعابير العلمية في العلوم التطبيقية كما في سوريا والأردن (عبد اللطيف والحمد، 2023: 5). وبالمقابل، اندفعت دول الخليج لافتتاح فروع للجامعات الغربية العريقة عندها واعتماد الإنكليزية لغة تدريس.
ويدخل على النقاش في هذا الموضوع كم هائل من الهراء، وتتدخّل في مواقف الخائضين فيه اعتبارات ومزايدات أيديولوجية وسياسية طاغية. وحتى التسعينيات من القرن العشرين، كان هناك أكاديميون لا تزال قرائحهم تفيض بالمديح لتجربة التعريب العربية (بادنجكي، 1993).
وفي استقصاء أجراه الباحثان حنفي وأرفانيتيس في أوساط خريجي الجامعات العربية في مرحلتي الدراسات العليا والدكتوراه، أن اقتصار هؤلاء على مراجع بالعربية يعود لعدم امتلاكهم أي لغة أجنبية (حنفي وأرفانيتيس، 2014: 733). ويعرف الأساتذة الذين أمضوا عمراً مهنياً كاملاً في تقييم الأبحاث أن الطلاب والباحثين الذين لا يعرفون إلا العربية لديهم مشكلة حتى في التعبير بها، وأن الذين امتلكوا على الأقل لغة أجنبية واحدة كلغة تعلّم وتعبير يعبّرون بشكل أفضل بالعربية.
ويعرف الكلّ أنه إذا لم يجرِ تعلّم اللغة الأجنبية في المدارس منذ الطفولة فعبثاً يحاول المعنيّون تعويض هذا النقص لاحقاً. أي إن حصر المشكلة في التعليم العالي غير دقيق. ويقتضي إصلاح التعليم العالي إصلاح التعليم واعتماد اللغات الأجنبية في التدريس منذ المراحل الأولى للتعليم. وقد أشار واتربري إلى أن التوسّع في التعليم بالعربية في المرحلتين الابتدائية والثانوية في دول المغرب العربي شكّل عائقاً أمام متابعة الطلاب لدراستهم الجامعية بالفرنسية، ويفسّر النسبة العالية للذين يتركون الدراسة قبل الحصول على شهادة (واتربري: 35).
وقد ثبّت دستور الهند في المادة (343) الإنكليزية كلغة رسمية. وأعاد البرلمان تأكيد هذا الأمر عام 1963. وفرضت اللجان المختصّة أن يكون كل أساتذة الجامعات قادرين على التدريس بهذه اللغة وأن يكون الطلاب قادرين على متابعة دراستهم بها. وتأتي الهند في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة وإنكلترا في إصدار الكتب بالإنكليزية (باجوم، 2014).
ثانياً: التدريس والبحث العلمي
1. الرقابة على عمل الأساتذة:
ليست هناك فوارق مهمة بين جامعة وأخرى وبين بلد وآخر لجهة رقابة الإدارات على جودة عمل الأساتذة. وتتدخّل اعتبارات شتى تجعل هذه الإدارات أقل تطلّباً تجاه أساتذتها، من مثل انهيار القدرة الشرائية لمداخيل الأساتذة بسبب سياسات الحكومة النقدية والمالية. و«تطنّش» هذه الإدارات أمام خرق هؤلاء الأساتذة لمبدأ التفرّغ وتفتيشهم عن مصادر دخل إضافية في أماكن أخرى (زيتون: 117). وأشار واتربري إلى شيوع تولّي الأساتذة توفير دروس خصوصية كمصدر دخل إضافي (واتربري: 114).
وليس غريباً والحال هذه أن يُفاجأ المهتمّون بضعف الكراسات المعتمدة للتدريس في الشكل وفي المضمون. والأكثر ضعفاً هي التي تُحيل إلى إصدارات بالعربية فقط كمراجع.
لكن التدريس باللغة الأجنبية ليس معياراً بحد ذاته لجودة التعليم. تمتلئ ساحة التدريس بالنصوص المبتسرة الصادرة بالإنكليزية مثلاً والتي لا تقدّم الكثير للطلاب لجهة تأهيلهم العلمي. وهي تُظهر أن المشكلة هي في عدم وضع الأساتذة جهداً كافياً في عملهم وفي عدم جديّتهم في تأديتهم لدورهم.
2. البحث العلمي:
وقد طال التردّي كلَّ مجال بمفرده من مجالات العمل الجامعي خلال العقود الأخيرة. وجرى التخفّف من التشريعات القديمة التي تضع شروطاً جدية لتصنيف الشهادات وترفيع الأساتذة. ولم يعد هؤلاء يهتمون بإعداد أبحاث إلا بنيّة دفعها للتقييم والترفيع على هذا الأساس. وأصبحت القاعدة أن يتوقفوا عن إعداد الأبحاث بمجرّد ارتقائهم درجة واحدة في سلّم الرتب. وأصبح الأكثر شيوعاً اعتماد أساتذة العلوم الاجتماعية برامج معلوماتية كـ E-views لمعالجة معلومات إحصائية غير موثوقة وإعداد أبحاث لا قيمة لها.
وأورد تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية لعام 2003 وقائع تُظهر هزالة عدد البحوث العربية المحكّمة المنشورة كل عام (برنامج: 70). وأظهر هزالة الإنفاق على «مراكز الأبحاث والتطوير» في الجامعات وخارجها بالمقارنة مع الدول الصناعية. وأشار في ما يتعلّق بأنشطة «الأبحاث والتطوير»، إلى عدم وجود أي استثمار في أبحاث الأساتذة وإلى غياب الأهلية لتحويل نتائج الأبحاث إلى مشاريع استثمارية (برنامج: 73). وفي ورقة الدكتور ريشة أن معدّل نشر البحوث/عدد السكان كان يساوي في سوريا 1% في حين أنه يساوي 10% في البلدان النامية. وعزا ذلك لتدنّي الدخل المادي للأساتذة وهجرة الأدمغة (ريشة: 148).
وقدّم واتربري عرضاً دقيقاً لوضع البحث العلمي في العالم العربي. وأشار إلى أن هذا الأخير هو الأحوج بين دول العالم إلى تطوير تكنولوجيات جديدة (frontier of innovation) لضمان مستقبله المهدّد، في ميادين كإدارة المياه وتحلية المياه والبتروكيماويات والتطوير الجيني لمحاصيل جديدة تستطيع أن تتحدّى مزيداً من الجفاف والاحترار (واتربري: 217). وبدا له الثلاثي المكوّن من الدولة والجامعات والقطاع الخاص غير قادر على نسج علاقات جديدة تواجه هذا التحدّي. وقد أجرى مسحاً شاملاً للمؤشرات الدولية التي تصنّف بلدان العالم لجهة تمويل الدولة والقطاع الخاص لنشاطات «البحث والتطوير». وجاءت الدول العربية دوماً، باستثناء بعض دول الخليج، في أسفل اللائحة (واتربري: 219-223). وتخلّلت رسمه لهذه الصورة الداكنة لحالة البحث العلمي في العالم العربي وقائع عن نجاحات محدودة في ميدان الأبحاث وتطوير الحاضنات التكنولوجية في الجامعات. وأعطى أمثلة من المغرب وتونس ولبنان والأردن والسعودية. وبدا مشروع «بيريتك» للحاضنات في الجامعة اليسوعية في بيروت تجربة جيدة لجهة تحويل الأبحاث إلى استثمارات (واتربري: …).
3. حرية التعبير:
وقد انتقدت الباحثة إيفا بلّان الأبحاث المتداولة لتفسير عجز الدول العربية عن التقدّم. وهي أبحاث تعتمد تفسيرات سوسيو-اقتصادية، من نوع مستويات الدخل الوطني ومعدّلات الأمية وغير ذلك لتفسير هذا العجز (بلّان، 2005). وقدمت مقاربة بديلة عدّدت فيها مصادر قوة وبأس المؤسسات المعنية بالحفاظ على الستاتيكو. لكنها تناولت أيضاً مسألة ضعف التعبئة في أوساط الرأي العام من أجل الإصلاح (بلّان، 2005: 35). أي إنها انتقدت بقاء قادة الرأي العام ومؤسساته مستلقين على ظهورهم أمام تفشّي الفساد السياسي والإداري واستشراء الممارسات الخارجة على القانون. ويقف أساتذة الجامعات صامتين أمام معضلات بلدانهم لكي لا يصطدموا بالمؤسسات الأمنية.
ثالثاً: خصخصة التعليم العالي
وقد دخل القطاع الخاص إلى التعليم العالي في غالبية البلدان العربية خلال عقد التسعينيات. وكان المشترك في كل هذه التجارب هو أن التعليم الخاص فيها أقل مستوى مما هو عليه في الجامعات الحكومية. وهي مؤسسات لم تضع لقبول الطلاب شروطاً لجهة العلامات التي حصلوا عليها في الثانوية العامة. وعوّلت على مدرّسي الجامعات الحكومية لتقديم خدماتها.
وهناك قلّة قليلة من المؤسسات التعليمية الخاصة الجديدة في لبنان أخذت بالمعايير الدولية المعتمدة في بناء الجامعات. أمّا الأكثرية الساحقة منها، فلم تكن على هذا النحو. وقد راجت مع انتشار هذه المؤسسات ذات الأهداف التجارية البحت، ممارسات لم يكن النظام التعليمي قد عرفها سابقاً. ومنها وأهمها تغيير علامات الطلاب الراسبين لجعلهم ينجحون كطريقة لاجتذاب أكبر عدد منهم (داغر، 2008). وكان الأساتذة الذين أتمّوا دراستهم في جامعات أجنبية يصابون بالصدمة حين تضغط عليهم الإدارات لتغيير علاماتهم. وكانوا يتخلّون عن التدريس في لبنان ويعودون من حيث أتوا. وفي الوقت عينه، شهدت حقبة الخصخصة هذه للتعليم تخلياً من قبل مؤسسات الدولة الرقابية عن دورها في هذا الميدان. وطغت في ممارستها ممالأة لأصحاب هذه المؤسسات وتخلٍّ عن دورها في ضبط تصرفات هؤلاء ضمن إطار القانون (داغر، 2016).
وخلال العقد الثاني من الألفية الجديدة بدا المنتمون إلى النخبة السياسية اللبنانية أكثر اهتماماً من السابق بإنشاء مؤسسات تعليم عالٍ تعود ملكيتها لهم كأفراد. ولأن الجامعة اللبنانية كانت ولا تزال تستقطب ثلثي مجموع الطلاب، استوجب ذلك بالنسبة إليهم تحجيم، بل ضرب، موقع هذه الجامعة بالكامل. وانعكس ذلك في التعيينات داخل المؤسسة. وشهدت السنوات التي سبقت الانهيار النقدي في 2019 أحطّ ما عرفته التجربة العربية من ممارسات لجهة عزل المسؤولين الأكفاء من دون سابق إنذار والتنكيل بالأساتذة والموظفين والتدخّل حتى في تقييم أبحاث الأساتذة. وجاء الانهيار الاقتصادي وانهيار مداخيل الدولة ليبرر للمسؤولين إهمال تفريغ الأساتذة المتعاقدين الذين ينتظرون منذ سنوات، وتركهم يهاجرون إلى أصقاع العالم الأربعة. وهي مؤسسة باتت اليوم، وفي ظروف لبنان الحاضرة، أثراً بعد عين لجهة ما تقدّمه.
رابعاً: «التعلّم التكنولوجي»
يُظهر العرض أعلاه أن مشكلة التعليم والتعليم العالي في العالم العربي أعمق بكثير من أن تكون مجرّد نقص في التمويل. وهو ما ركّزت عليه الدراسات التي صدرت خلال العقود الأخيرة. ولا يمكن إصلاح هذا القطاع إلا بتغيير جذري في الأولويات يجعل «التعلّم التكنولوجي» أولوية في كل بلد عربي.
ويمكن تعريف «التعلّم التكنولوجي» بأنه القدرة على تفكيك وإعادة تركيب الماكينات المشتراة من السوق الدولية (داغر، 2024). وينبغي أن يكون قد تمّ بناء القاعدة المعرفية الوطنية لكي تتوافر هذه المقدرة. وتتولى الجامعات و«مراكز الأبحاث والتطوير» تكوين المهارات (skills) لهذه الغاية. وتختصر النقاش حول هذا الموضوع ثلاثة مفاهيم هي: المعرفة التكنولوجية والتعلّم التكنولوجي والابتكار التكنولوجي.
ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، قدمت نظرية النمو الاقتصادي المحدثة إسهاماً بالغ الأهمية بالتركيز على دور المعرفة التكنولوجية (knowledge) في تحقيق النمو (غالّاك ورالّ، 2003: 40-116). وراجت منذ ذلك التاريخ الأدبيات حول الاقتصاد الجديد الذي ينبغي أن يكون قائماً على المعرفة.
وعرّف باحثون كبار التنمية بوصفها نتيجة لـ«تراكم التعلّم والمعرفة» (learning and knowledge accumulation) (بريتون، 1998: 903). وينقسم «التعلّم» إلى نوعين: «التعلّم بالممارسة» و«التعلّم بالبحث العلمي». وتتكوّن الأبحاث من الأبحاث الأساسية والأبحاث التطبيقية. وتهتمّ «مراكز الأبحاث والتطوير» بهذه الأخيرة لأنه يمكن تحويلها إلى مشاريع استثمارية.
وأوضحت الباحثة أليس أمسدن أن الابتكار (innovation) هو دائماً ممكن وفي متناول الجميع، باعتبار أن المعرفة لا تكون أبداً كاملة وأنه يمكن دوماً تطوير طرائق جديدة لإنتاج السلع أو الخدمات ذاتها (أمسدن، 2001: 3). ويصبح «المشغل» أو «مختبر المصنع» هو الموقع الأهم في المؤسسة لأن فيه يتحقّق الابتكار (أمسدن وهيكينو، 1993: 250).
واعتمد الباحث من أصول هندية، سنجايا لال، مؤشرات لإظهار الاختلافات بين مجموعة من الدول في مجال بناء «الإمكانات التكنولوجية» (technological capabilities) على مستوى المؤسسة بمفردها وعلى المستوى الوطني (لال، 1992). ومنها الإنفاق على التعليم بشكل عام، والإنفاق على «مراكز الأبحاث والتطوير»، والإنفاق على التدريب داخل المؤسسات، وحصة المهندسين المنخرطين في نشاطات «الأبحاث والتطوير» في القوى العاملة الوطنية. وبدت الأكثر نجاحاً بين هذه الدول تلك التي استبعدت الاستثمار الأجنبي المباشر واعتمدت إجراءات لـ«حماية التعلّم التكنولوجي المحلي» (لال، 1992: 183).
وفي تجربة كوريا الجنوبية، لم تلعب الأبحاث داخل الجامعات الدور الأول في إطلاق التصنيع في هذا البلد. بل قدّمت الدولة حوافز للمؤسسات الإنتاجية لإنشاء «مراكز أبحاث وتطوير» داخلها، إذ بلغت حصة هذه المراكز 60% من مجموع الباحثين في كوريا. وهم الذين ارتفع عددهم من لا شيء عام 1960 إلى 130 ألفاً خلال التسعينيات (كيم، 2001: 14). وفي تجارب أخرى، بدت العلاقة أكثر مباشرة بين الجامعات وبين المؤسسات الإنتاجية. وقدّم باحثون من جنوب إفريقيا صورة حسّية للعلاقة القائمة بين قطاعات إنتاجية بعينها وبين مؤسسات التعليم العالي التي ترفد هذه القطاعات بالكفاءات والقدرة على الابتكار (كروس وآخرون، 2015).
ولقد ربط جون واتربري في الجزء الأول من كتابه القيّم بين طبيعة النظام الأوتوقراطي العربي وبين مشكلات الجامعة. وخصّص الجزء الثاني منه لتقديم مداخل واقتراحات لكل عنصر من عناصر الإصلاح الذي اقترحه. وتناولت الاقتراحات كيفية تطوير العملية التعليمية وتطوير الإدارة للجامعات وتطوير أنظمة الأبحاث والابتكار وتمويل الجامعات العربية وأموراً أخرى.
ولم تحظَ مسألة اللغة المعتمدة للتدريس بالاهتمام في كتابه الموسوعي. وهي الشرط الذي لا بد منه لربط التعليم بـ«التعلّم التكنولوجي». وقد حصلت النجاحات الضئيلة التي أشار إليها في بيئات غير معادية للتدريس باللغة الأجنبية، أو أنها تعتمد هذه الأخيرة كلغة تدريس.
والدول التي ستنجح هي التي ستكون الأكثر حزماً في تعاملها مع موضوع اللغات الأجنبية وفي عدم التردّد أبداً بإدخال هذه الأخيرة في صلب العملية التعليمية. وسوف تنجح أكثر الدول التي تقيم ربطاً محكماً بين مؤسسات التعليم العالي وبين نشاطات «التعلّم التكنولوجي».
المصدر: الأخبار اللبنانية
خليك معنا