الصباح اليمني_مساحة حرة|
قدَّمت الدورة الرمضانية هذا العام مسلسلات عديدة متنوعة الخلفيات والرسائل، تراوحت بين أعمال ركزت على التاريخ المنسي للإقطاع العثماني وعلى سرديات جديدة دخلت على خط المنافسة التاريخية للثورة العربية ضد الاحتلال التركي، وأعمال مشغولة بنكهة أميركية خالصة، وأخرى تناولت الإرهاب التكفيري، وكذلك ظاهرة “الفتوات”.
1- “سفربرلك”: قبل أن نتناول الهدف السعودي من التمويل الكبير لهذا المسلسل، نشير إلى أن السوريين أنجزوا سابقاً عملاً مماثلاً لنجدت أنزور تحت عنوان “إخوة التراب”، وكذلك المصري هنري بركات الذي أخرج فيلماً باسم “سفربرلك” من بطولة فيروز، إضافة إلى أعمال روائية تحت العنوان نفسه للأردني سليمان القوابعة والسعودي مقبول العلوي.
من الأحداث التي رافقت هذه المرحلة:
– مذبحة الأرمن التي غابت عن المسلسل، والتي قُتل فيها أكثر من مليون أرمني مدني على يد الأتراك.
– شبكات الجواسيس اليهودية والبريطانية التي انتشرت خلال هذه الفترة، مثل شبكة هارون رونسون وشقيقته سارة التي أقامت علاقات مع كل الأطراف، من جمال باشا السفاح إلى قادة نافذين في الثورة العربية الكبرى، واتخذت عتليت في فلسطين كمستنبت زراعي مقراً لها، كما يظهر كتاب “جواسيس بين العرب” لرياض نجيب الريس.
إلى ذلك، فإنَّ الثورة العربية التي اندلعت خلال الحرب العالمية الأولى ضد الاحتلال التركي، وسبقتها إرهاصات دامية في ثورتي الكرك وجبل العرب 1910، أصبحت مع المسلسل السعودي الجديد مثار سجالات بين 3 سرديات، سعودية وهاشمية وسورية، وبين 4 مدن أساسية (دمشق، المدينة المنورة، مكة، إسطنبول).
من جهة، من الشائع أن الثورة العربية الكبرى محالة إلى شريف مكة، الحسين بن علي، الذي سرعان ما استبدله الأتراك بابن عمه بعد اصطفافه مع المعسكر الآخر من القوى الدولية المتحاربة. وقد اتخذ شريف مكة من العروبة عنواناً لحركته بعد تفاقم سياسات التتريك العنصرية.
من جهة ثانية، هناك إرهاصات البرجوازية السورية التي بدأت تتشكل من تجارة الحبوب والصناعات الخفيفة والحرير والتسهيلات التجارية لأعوان القناصل الأجانب، وراحت تتقاطع مع نشاطات ثقافية وفكرية متأثرة بالنزعات القومية التي رافقت تفسخ الإمبراطورية العثمانية في ألبانيا واليونان والبلقان وغيرها.
بالتدريج، وفي البيئة السورية المذكورة، تشكّلت جمعيات سياسية وفكرية سرعان ما انعكست على عشرات الضباط السوريين والعراقيين وغيرهم من الضباط العرب في دولة الاحتلال العثماني، فقد لاحظت مفاتيح هذه البرجوازية في الحواضر السورية أن إعلان ثورة قومية تشمل البلاد السورية والمشرق العربي برمته، حيث تمتد أسواقها، يحتاج إلى غطاء ديني في مواجهة الغطاء السلطاني الذي استخدمه حزب الاتحاد والترقي لتجييش الرأي العام الإسلامي.
في هذه النقطة، تقاطعت البرجوازية السورية مع شريف مكة وراسلته ليكون عنواناً لثورتها، إضافةً إلى السباق على علاقات مع القوى الدولية العالمية الصاعدة، مثل بريطانيا، وخصوصاً بعد فشل الحملة التركية على السويس.
ليس صحيحاً أن أعيان الشام وحدهم من أقاموا اتصالات مع الإنكليز، كما يقول المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني المعروف بدفاعه عن تركيا آنذاك، التي كانت تحت حكم جماعة عنصرية طورانية مرتبطة بالمحافل اليهودية في سالونيك، فقد أظهرت الوثائق البريطانية أن البريطانيين أقاموا علاقات مع العديد من قادة الاتحاد والترقي، ومنهم جمال باشا السفاح نفسه، الذي تمت تصفيته لاحقاً مع القادة الأتراك الآخرين الذين نفذوا مذبحة بحق الأرمن، والذين اغتالتهم فصائل انتقام أرمنية.
من المعروف أيضاً أن البرجوازية السورية بادرت بعد هزيمة الأتراك وانحسار احتلالهم لمصلحة احتلال آخر هو الاحتلال الأوروبي إلى عقد مؤتمر سوري عام في دمشق، شمل مندوبين لكل البلاد السورية آنذاك، سوريا الحالية والأردن وفلسطين ولبنان، وترتبت عليه الدعوة إلى إقامة دولة سورية على كل أراضي سوريا الطبيعية.
في مقابل السردية الأولى وموقع مكة وشريفها فيها والسردية الثانية وموقع البرجوازية السورية، يبدو أنَّ أوساطاً سعودية راحت تؤسّس لسردية ثالثة عبر مسلسل “سفربرلك”، ابتداء من المدينة المنورة وأحداثها، وهو ما يتقاطع مع تحولات في الخطاب الأيديولوجي الجديد للسعودية الذي يتخذ من العروبة عنواناً له ويحتاج إلى تأصيله، تماماً كما اتخذ من الإسلام خطاباً له في السابق، وقام بتأصيله انطلاقاً من الدرعية في نجد، ودخل حينها في صدام مع الخطاب العربي في زمن المد القومي التحرري بقيادة جمال عبد الناصر.
2- “النار بالنار”: مسلسل يصلح لأن يكون حالة دراسية للمسلسلات الرمضانية والدراما التي تتقاطع مع التصورات الأميركية لوظيفة الجبهة الثقافية في الحرب الباردة الجديدة، فإذا كانت هذه التصورات تظهر عبر قضايا محددة في أعمال تلفزيونية وسينمائية مختلفة، فإن مسلسل “النار بالنار” جمعها في سلة واحدة، إضافة إلى الإطار العام الذي اختاره، وهو سوريا، المستهدفة منذ عام 2011 على الأقل، بالتزامن مع الثورات الملونة كبديل أميركي لحركة التحرر الوطني.
تنطلق التصورات الأميركية من تجزئة القضايا العامة ومقاربتها وفق مفاهيم مختطفة ومقتطعة من سياقها التاريخي وبعدها الوطني الديمقراطي العام، وتحويلها إلى شذرات على إيقاع الترددات في المتروبولات الرأسمالية وحاجتها إلى تجديد نفسها، وهو ما يتم بالتزامن مع تفكيك الدولة بصورة عامة، بذريعة مواجهة الشمولية بالاتكاء على المقولة الوهمية عند حنة أرندت وتابعيها من يسار الليبرالية الجديدة.
وإضافة إلى تنصل الإمبرياليين من مسؤوليتهم المباشرة عن تداعيات الخراب والفساد والجوع والهجرة، وفق اعترافات بيركنز في كتابه “القاتل الاقتصادي”، واعترافات ترامب وهيلاري كلنتون عن اختراع الإرهاب التكفيري، ثمة ما يقال عن الجوهر الفاسد للثقافة الأميركية نفسها التي اختطفت العقل والمجتمع وحوَّلتهما إلى عقل أدائي تقني ومجتمع ما بعد صناعي متفلت مثل كريات زجاجية على سطح أملس.
وفي مقابل طبخ قوى مدنية وليبرالية مزعومة ودفعها في إنزالات بالباراشوت في البلاد العربية، تزداد الكتب والدراسات الغربية التي تتحدث عن فشل الليبرالية والرأسمالية، مثل كتاب باتريك دينين “لماذا فشلت الليبرالية؟”، وكتاب أوليريس شيفر “انهيار الرأسمالية”، وكتاب ديفيد غريبر “مشروع الديمقراطية”.
أما التصورات الأميركية التي يجري توظيفها عبر الدراما والثقافة عموماً، فتتوزع على نمطين:
الأول، إعادة إنتاج أشكال الاستعمار القديم باسم تمدين المتوحشين الشرقيين والتركيز على النساء (على غرار لوحات الجواري لجيروم وجون فيد) وتحويل المسيحيين من مواطنين أصليين في بلادهم إلى رعايا للقناصل.
الثاني، التصورات الجديدة الناجمة عن السياسات الإمبريالية أصلاً، ومن أبرزها التركيز على قضايا النساء، والأقليات الإثنية، والإرهاب الأصولي، واللاجئين، ومهاجري القوارب، ومجتمع الميم، والمخدرات، وعمالة الأطفال، واليهودي الطيب، كما في فيلم “ريح السد” وفيلم “دمشق مع حبي”.
من أجل ذلك، راحت الدوائر الأميركية تقيم تحالفات عريضة لترجمة هذه التصورات وتسويقها عبر الدراما وغيرها:
– اختطاف التصوف؛ فإلى جانب الإسلام الأطلسي الخشن أو لإيجاد بديل منه بعد استنفاد دوره في ساحات عديدة، قامت مراكز أبحاث أنثروبولوجية واجتماعية باختطاف التصوف العظيم لابن عربي والرومي وغيرهما، كما اختطفت مفاهيم الحرية والمجتمع المدني والمواطنة والتغيير والإصلاح الدستوري، وراحت تعمم ذلك بأشكال مختلفة في الحياة، كما في الفنون والدراما والأدب.
– إعادة إنتاج ظاهرة المنشقين الروس وتعميمها في الحياة الثقافية العربية، وذلك عبر أشكال مختلفة من اليسار الاجتماعي والليبرالية المزعومة وجماعات الثورات الملونة.
3- “الزند – ذئب العاصي”: إضافةً إلى الدلالات والروايات السياسية للسنوات الأخيرة من الاحتلال العثماني، استعرض المسلسل السوري “الزند” الجوهر الاجتماعي الإقطاعي الذي رافق هذا الاحتلال عبر قرون مديدة، والذي ظل يحجبه بغطاء سلطاني ديني أرهق الشعوب المغلوبة، ومنها العرب، إذ لم يترك هذا الإقطاع السلطاني وفرسانه من التيمار والزعامات والولاة والوكلاء للفلاحين من ناتج الأرض والغلال سوى النزر اليسير.
يُذكر أن هذا الإقطاع موروث عن الإقطاع الأيوبي وسماح صلاح الدين بتحويل أراضٍ واسعة من حق التصرف والانتفاع إلى حق الرقبة والملكية الخاصة وتوزيعها على أولاده وإخوته، ويُشار إلى أنّ الإقطاع تواصل بأشكال مختلفة حتى قيام الوحدة السورية المصرية وإعلان الإصلاح الزراعي الذي أنهى الإقطاع.
4- “الكتيبة 101”: إضافة إلى أعمال أخرى، تابعت الدراما المصرية تركيزها على ظاهرة الإرهاب الأصولي عبر مسلسل “الكتيبة 101” الذي يجمع بين المعالجات الدرامية المعروفة والتوثيق، كما شاهدنا في مسلسلات سابقة، مثل “الاختيار” و”هجمة مرتدة” و”العائدون”.
وإضافةً إلى تكريم شهداء الجيش المصري الذين سقطوا في مواجهة الإرهاب، من اللافت للانتباه ربط هذه الأعمال بين الجيش كمؤسسة مستهدفة بحد ذاتها بصرف النظر عن الطبيعة الاجتماعية للسلطة السائدة، والبعد الإقليمي لنشاط الجمعيات الإرهابية التكفيرية كعنوان للفوضى الهدامة.
5- “عوالم توفلر”: المقصود هنا هو ما كتبه المفكر الأميركي توفلر في ثلاثيته “تحول السلطة”، التي يشير فيها إلى عوالم ما بعد الثورة الرابعة وما بعد الرأسمالية والمجتمع الصناعي، بوصفها عوالم تتجه إلى خارطة جديدة من اللاعبين وقواعد اللعبة، ومن هؤلاء:
– عودة الأصوليات المتطرفة الناعمة والخشنة، والمبرمجين، والمافيات، والمخدرات، وعالم الفتوات. وإذا كانت ثمة تعبيرات موضوعية لذلك، فثمة أصابع أيضاً توظف هذا العالم وتكرسه، مثل أقلام الاستخبارات الأطلسية واليهودية العالمية. ولنتذكر هنا كيف لفتت دراسات برنارد لويس وبارت عن الأزياء والمطابخ الشرقية انتباه هذه الأقلام إلى أهمية استخدام هذه الدراسات وتحويل الهويات الفرعية إلى هُويات قاتلة.
بالعودة إلى “عوالم توفلر” وحضورها في الدراما، وإضافة إلى ما بات معروفاً عن الأصوليات التكفيرية الإجرامية والمصممين الكبار والمافيات والمخدرات، ثمة تسويق موضوعي أحياناً، ومبرمج أحياناً، للفتوات، بالتزامن مع تسويق شبكات التواصل بديلاً من العمل الشعبي المنظم.
وبالتزامن مع تفكك الدولة وتحولها إلى كانتونات وحارات طائفية، ثمة شكل جديد من القادة، سواء كانوا أخياراً أو أشراراً، ودون ذلك تاريخ الحرافيش في مصر، والعيارين والشطار في بغداد، والفتوات في سوريا.
المصدر: الميادين نت