بغتة، ومن دون اعتياد، وعلى غير توقع، دعا صالح أنصاره ومحازبيه إلى الإحتفال بالذكرى الـ35 لتأسيس حزبه (المؤتمر الشعبي العام). كانت الدعوة لافتة ومثيرة للشبهة والاهتمام لدى الكثيرين؛ فالحرب على أشدها في غير جبهة، والشكوك والتهم بين حلفاء الحرب في ازياد، والخلاف من حول المفاوضات والاتصالات والتنازلات، ومسار الحروب في العراق وسوريا وليبيا، تلقي بظلال من الشك بين أطراف الحرب (كل أطراف الحرب)، تغذيها الأوهام، والتسريبات، وانعدام الثقة بالأساس.
كان التحشيد كبيراً في ميدان السبعين. كان رهان غالبية المحتشدين على سماع جديد يتعلق بالسلام وبحل سياسي، وبمعالجة المرتبات والمعاشات، وتناول القضايا العالقة بين طرَفي تحالف الحرب المتقاتلين على الوظيفة العامة، والمتبادلين تهم نهب المال العام والمرتبات.
في خطابه المقتضب أمام الآلاف من محازبيه وأنصاره لم يتحدث صالح مطلقاً عن المناسبة، ولا عن تأسيس الحزب، ولا الظروف التي مر بها، كما تتطلبه المناسبة. لم يخاطب الحضور الكبير، ولا شكرهم، وإنما شكر حسن نصر الله؛ مما كشف جانباً من لغز التهدئة، وتبدل الموقف من مساومة الحل السياسي، وهو المطلب الأساس والملح لحزبه وللشعب كله، إلى الدعوة أو الوعد برفد الجبهات بالمقاتلين من الجيش الموجود في البيوت. ومعروف أن وحدات الجيش الجمهوري لم تهيكل، وظل جزء كبير منها مرتبطاً بنجل الرئيس السابق، وقد انخرطت أعداد منه في الحرب.
وعْد صالح برفد الجبهات بهذا الجيش يكشف مأزقه الحقيقي؛ فهو في لحظة من لحظات الإنفعال والحماس الزائد يدعي أنه هو من يخوض الحرب، وأنه القائد الميداني الفعلي، وفي لحظة أخرى، يراهن فيها على مساومةٍ ما، يدعي أنه يدعم الحرب التي يخوضها «أنصار الله»، وأنه مجرد حليف مساند للحرب والمحاربين، وربما قدم نفسه في لحظة أخرى كرجل سلام وداعية تصالح وتوافق.
ربما ظن علي عبد الله صالح أن مزاج الحرب لدى المحتشدين هو ما دفعهم للحضور، وربما اعتقد أن حبه والولاء له هو الدافع الأساس، وأن حديثه الشعبوي والدعاوى الثورجية ستغطي تفاقم الأزمة بينه وبين من أطلق عليهم المليشيات، واتهمهم بالخروج على التحالف، وعدم الإلتزام بما يُتوافق عليه، وبالتالي خسارة الحرب.
صالح الذي أعماه الثأر، وأنهكته حروب الإنتقام من شعبه الذي خلعه في احتجاج مدني سلمي (ثورة الربيع العربي في اليمن التي لا يؤمن بها، ولم يكن يتوقعها)، وربما أيضاً الغضبة من «آبائه الروحيين» الذين أوصلوه إلى الحكم وأصبحوا داعمين جبهة خصومه «الإصلاحيين»، فقد البوصلة، وربما أراد خداع حلفائه وخصومه بأنه لا يزال الماسك بكل أوراق اللعبة (رجل الحرب والسلام في آن!).
الآتون من إب وذمار والبيضاء والمحويت وريمة والحديدة وحتى بعض أرياف تعز، كلهم جاءوا وهم يحملون هموم مناطقهم التواقة للخلاص من الحرب، وسماع بشارة السلام «الموعودة»، وأن يسمعوا خبراً طيباً عن المرتبات المقطوعة والمعاشات المنهوبة، والأهم الخلاص من الحرب المدمرة التي هدمت قراهم، وطالت أحياءهم الفقيرة والجائعة، وقتلت ما يزيد عن عشرة آلاف، وأعاقت مئات الآلاف، وشردت الملايين، وضربت وهددت جل معالم الحياة. كان المحتشدون مدركين أن الحرب الداخلية هي السبب الرئيس والأساس في العدوان الخارجي الأكثر فتكاً، والأعظم تدميراً، والأقدر على الخراب.
كان الإحتفال بالذكرى الخامسة والثلاثين في بلد يموت بالحرب والمجاعة التي تطال أكثر من 80%، تطال ما يقرب من مليون طفل، ويعاني من نقص الغذاء، وتنتشر الأوبئة الفتاكة فيه ليتحول اليمن كله إلى بلد مجاعة وحروب وأوبئة، وأسوأ بلد على وجه البسيطة. أقام «الزعيم» حفل زفاف تأسيس حزبه، كمن يقيم عرساً في مأتم، أو بالأحرى يرقص – في وسط كارثة – على رؤوس الثعابين (العبارة الأثيرة لديه). المناسبة مؤتفكة، وهي شكل من أشكال المواجهة بين فريقي الحرب الأهلية.
ويقيناً، فإن المتقاتلين التي ترغمهم الأحداث الجسام على خوض حرب ضد عدو مشترك، لا ينسون الحرب ضد بعضهم؛ فهم يختزنون إرثاً ثقيلاً من تركة العداوات التاريخية والسلالية: العدنانية – القحطانية، وستة حروب لم تجف دماؤها بعد.
استطاع صالح حشد أنصاره المهجوسين بالرغبة العارمة في الخلاص؛ فهم لا يزالون يعتقدون أن أوراق لعبة الحرب والسلم في يده، وهم مواطنون يمنيون يعيشون بشاعة الحرب، ويعانون تبعات وكوارث المجاعة والأوبئة الفتاكة وقطع المرتبات، وقد منّاهم «الزعيم» بقرب الحل السياسي، وبعودة الأمن والسلام والاستقرار إلى نفوسهم وإلى بلدهم الجائع والمنكوب.
تاريخ صالح كله في الحرب، وحظه من السلام يكاد يكون ضعيفاً إن لم يكن معدوماً؛ فهو بطل حرب 94 (أم الحروب كلها)، وقبلها حرب 72و 79 ضد الجنوب أيضاً، وبطل حروب صعدة الستة، وحروب الوسطى، وفي عهده ازدهرت الحروب وأصبحت تجارة لن تبور، وهو لا ينافس خصومه المحاربين في الجبهات الأخرى إلا بأنه كبيرهم الذي علمهم السحر.
الاحتفال الإصطناعي لم يكن بريئاً، وقد أدرك حلفاؤه وشركاؤه أن الإحتفال «حصان طروادة»، وأنه يوجه رسالة مفتوحة لهم بالإزاحة، وللأطراف الخارجية بأنه الطرف الأقوى الأقدر على التفاوض وتلبية «المطالب».الاحتفال السبعيني فتح أبواب صراع بين «الأخوة الأعداء»، بين فريقين تحالفا كرهاً وضرورة، وما بينهما من الإختلاف أكثر مما يجمعهما من الإلتقاء، صداقة من نكد الدنيا، كإبداع أبي الطيب.
ومن هنا، فإن نتائج حفل السبعين قد تكون بداية الإفتراق، وربما المواجهة، وهو ما يجعل من الحرب الأهلية اليمنية (حرب الكل ضد الكل) احتمالاً مروعاً. المفارقة الراعبة أن التحالفات في الجنوب لا تختلف عن أختها في الشمال إلا في الشخوص وبعض التفاصيل؛ فالحراك المسلح في جانب مهم في خلاف مع عبد ربه منصور الرئيس الشرعي المنتخب في الشمال، وهو محل شكوك ومعارضة لدى الكثير من الجنوبيين. ومن هنا حالة المد والجزر في علاقة الشرعية بالشارع الجنوبي، وقد ساعد وجود الإمارات العربية في الجنوب على تقوية وتغذية هذا الصراع نكاية بـ«التجمع اليمني للإصلاح» الضعيف الشوكة في الجنوب كطرف رئيس في حرب 94.
القيادات المتاجرة بالحرب غير جديرة بشرف السلام، أو القدرة على السير فيه، أو صنعه من باب أولى. هي مختلفة مع بعضها البعض، ومهيّأة للتحارب في مواجهات لا تقل ضراوة عن تحاربها مع «إخوانها» في الجبهات الأخرى (تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى [الحشر: 14]). يتحالفون ويتحاربون كما يتمازحون.
الحرب وسيلة الجاه والمال، والإيغال في الدوس على رقاب الناس. مهنتهم التحارب والتحارب والتحالف معاً أكذوبة كبرى؛ فلا أحد يصدق الآخر، ولا مصلحة لهم في حل سياسي، أو سلام، أو استقرار. شعورهم أو حتى إحساسهم بمعاناة الناس ضعيف وربما منعدم، الكوارث التي يعيشها الناس لا تعني لهم شيئاً، وهمهم أن تتحول إلى مراكز وأرصدة.
إحتشاد الناس في السبعين، وغالبيتهم طبعاً مدنيون مسالمون يراهنون على حل سياسي، مصدره خوف ممزوج بطمع في حل يأتي ولا يأتي. الأزمة الطاحنة: المجاعة، القتل، التشرد، الأوبئة الماحقة، الحصارات الطائلة، كلها أعمت البصائر، ودفعت بالمئات والآلاف لطلب الحل من قاتليها، وذلكم كثير الحدوث في التاريخ. والسؤال المجروح: إلى أين ستدفع خيبات الأمل المتكررة في زعامات تكذب كما تتنفس؟ (كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء) [النور:24].
المفارقة أن الفريقين صعّدا وتيرة خلافاتهما إلى أعلى مستوى؛ فبرزت الإتهامات المتبادلة بخيانة التحالف، والانقلاب عليه، والطعن في الظهر، والإقصاء والتهميش، ونهب المال العام، وسرقة مرتبات الموظفين ومعاشات المتقاعدين، بل وصل التحدي إلى محاولات منع إقامة المهرجان، وقد اشترك رئيسا التحالف الحربي: صالح، وعبد الملك في هذه الهوجة.
إعتقد المواطنون في محافظات سلطة الأمر الواقع أن هناك خيارين يتصارعان: خيار السلام والتفاوض السياسي ويمثله صالح، وخيار الحرب ويمثله «أنصار الله» ورئيسهم عبد الملك الحوثي، مع أنهما وجهان لعملة واحدة. كان التحشيد والحضور لافتاً. وقد يكون حلم الخلاص من كارثة الحرب حاضراً بقوة. خطاب صالح تحول من النقيض إلى النقيض. الأغرب أن الماء البارد الذي سكبته كلماته المتقضبة والداعية لرفد الجبهات بالجيش الذي لم يهيكل – حسب إشارته المراوغة – قد أججت المشاعر، ودفعت ببعض أنصاره إلى استنكاره ورفضه. أما خصومه الحلفاء فقد تعمقت الشكوك لديهم، وربما اعتقدوا أن في الأمر خدعة.
طرفان خارجان من حرب استمرت ستة أعوام يدخلون في تحالف ضد طرف ثالث في شهوة عريانة على امتلاك الحكم بأبعاد ودلالات شديدة التخلف والمقت. أسئلة حارقة تطرحها خاتمة الإحتفال غير البريء طبعاً، والذي لا نقاش حول مشروعيته التي يجب أن تكون شرعية للحياة السياسية برمتها، ولكل الأحزاب المعارضة من دون استثناء، ولكل النقابات ومؤسسات المجتمع المدني، ولكن جرى عملياً منذ انقلاب 21 سبتمبر 2014 أنهما تشاركا في تدمير الحياة السياسية، ووأد الهامش الديمقراطي، وإعلان الحرب ضد ثورة الربيع العربي في اليمن، ومصادرة الحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، واعتقال المعارضة وأصحاب الرأي.
كيف نقرأ هذا التطور الدراماتيكي المباغت؟ هل يستطيع المتحالفون تدارك الأمور والتغلب على تفكك التحالف بل اصطراعه؟ وفي حالة تصاعد الصراع فما أثر ذلك على الوضع بصورة عامة وعلى جبهات القتال؟ ما مستقبل الصراع في اليمن كلها في ظل عجز وفشل القوى التي حكمت طيلة الـ33 عاماً المنخورة بالفساد، والمثقلة بالصراعات وعدم القبول ببعضها، ومن باب أولى القبول بالقوى الجديدة من المرأة والشباب والمستقلين، عماد الثورة الشعبية وأساس الحل في مخرجات الحوار الوطني، والذين من الصعب إن لم يكن من المستحيل الوصول إلى حل بدون مشاركتهم الأساسية والفاعلة؟
والسؤال الأخطر: هل يفتح الصراع القائم في اليمن كلها الباب أمام الحل السياسي أم هو مؤشر حرب الكل ضد الكل؟ وهل هناك صفقة ما أو تسابق على مَن يكون العنوان الأهم في حل قادم متوقع؟