الصباح اليمني_مساحة حرة|
أظهرت الحالة الإعلامية المريضة الأخيرة لإحدى فضائيات التمويل الخارجي المتعدد الجهات، التي تطاولت على الجغرافيا العربية الوحيدة في لبنان التي أذلّت العدو الصهيوني ومرغت أنفه بالتراب، أن العرب لا يعيشون فظاعة التراجيديا فحسب، بل يقعون أيضاً تحت انحطاط “المسخرة” و”ثقل الدم” عندما تُصوّر على شكل كوميديا لمن هب ودب و”غب الطلب”.
إلى ذلك، لا يقتصر زمن الرداءة على حقل بعينه، بل يمتد إلى كل شيء، مثل فئران الحقول، ومن ذلك الخلط بين السخرية و”المسخرة” الذي يعمّقه غياب الوعي النقدي المعرفي عند النخب قبل العامة أو هشاشته.
وفي حين تظهر “المسخرة” كمفارقة سطحية مبتذلة واعتداءات على الذائقة، وتشهد عليها شخصية أصحابها المفتعلة الثقيلة الدم في حقيقتها، فإن للسخرية تقاليدها وثقافتها وفلسفتها العميقة، من المسرح الإغريقي القديم، وخصوصاً أعمال أرستوفانس (الضفادع)، إلى أدب الثورة البرجوازية وثقافتها، كما هي عند سرفانتس وهايني وموليير وغوغول، وفي عصرنا نيسين وشابلن. وكان للعرب مساهماتهم المبكرة في أدب الكدية العباسي، ثم في القرن التاسع عشر، وخصوصاً دور شوام مصر في المسرح والكتابة الذي امتد إلى القرن العشرين.
ويحفل الأدب والتراث العالمي في النقد والنصوص بعشرات الدراسات عن التهكّم والسخرية وأدبهما وثقافتهما، وخصوصاً أعمال رابليه وباختين وبرغسون (الضحك)، إذ ذهبت جميعها إلى أن السخرية مؤشر على انهيار نظام اجتماعي كامل، وقناع اجتماعي لاحتجاج جمعي على قوى سائدة في طور الهبوط ومغادرة مسرح التاريخ، وهي بهذا المعنى قوة مقاومة إيجابية فاعلة، بعكس “المسخرة” التي تعكس وعياً مبتذلاً في خدمة القوى السائدة.
وبحسب رابليه، فإن ما لا يلحظ بين هذين الجنسين من الأدب يكشفه المستوى البنائي الإبداعي نفسه، والحرارة الإنسانية في نصوصه ومضامينه.
لا يحتاج المرء هنا إلى التذكير بالأعمال الرفيعة السابقة الذكر في مقابل أطنان الرداءة التي تخنق آداباً وشعوباً أخرى، وتستسهل الاعتداء على التراث والثقافة، وتقدم نفسها جزءاً من نادي السخرية العالمية.
والحق أيضاً أنَّ السخرية وعوالمها تحتاج إلى عوالم وبنية تحتية مدنية ثقافية، مثل “أضواء المدينة” و”الأزمنة الحديثة” لشابلن، والأعمال المشتركة لزياد الرحباني وجوزيف صقر في “نزل السرور” وغيرها.
ويُشار كذلك إلى مفهوم آخر مشابه للسخرية هو مفهوم التهكّم، وتحديداً التهكّم السقراطي، فبحسب الدكتور عادل العوا، “التهكّم” في الثقافة الغربية هو ضرب من السخرية التي تستعين بتبديل اللهجة أو بعدم إعطاء الكلمات قيمتها الحقيقية أو قيمتها الكاملة لإفهام السامع أو القارئ عكس دلالة القول، فالتهكّم صورة من صور القول وسخرية أو ضرب من السخرية، والسخرية تختلف عن الهزء، لأن الهزء لعب الفكر المازح الماكر لعباً مراً أو هاجياً.
هذا الانتقاد الساخر يتميز عن السخرية المباشرة بخصائص وصفات وأساليب وسبل أكثر تعقيداً وإرهافاً، وأعظم تعلقاً بالإصلاح وبالانتقاد المصلح بصورة غير مباشرة، بل ملتوية ذكية.
ويعرّف فلاديمير جانكلفتش التهكّم من خلال المتهكمين، مبتدئاً بأشهرهم، بل برائدهم في العصر القديم: سقراط. بالنسبة إليه، ثمة تهكم أولي يمتزج بالمعرفة، وهو كالفن ابن الفراغ، ولكنه يتسم بسمة أخلاقية عظمى، فلا يظل مسألة فنية خالصة، كما يتسم بحقيقة رهيبة جداً تبعده عن الهزل، ولكن، على الرغم من ذلك، ثمة صفة مشتركة بين الفن والهزل والتهكم، هي أنها كلها لا تصبح جائزة إلا عندما تتوخى الضرورة الحيوية الملحة.
خليك معناالمصدر: الميادين نت