بخروج الفلسطينيين من لبنان، وباستطالة حرب الخليج الأولى، اعتقد الإسرائيليون أن القضية الفلسطينة قد ماتت. فلم تعد هناك قيادات فلسطينية قريبة تهددها، كما أن القضية لم تعد القضية المركزية الأولى للعرب.
ففي مؤتمر القمة العربية في عمان عام 1987 لم يُنظر في قضية فلسطين، وهُمشت عمداً، وأُعطيت الأولوية للصراع العربي – الإيراني. ويقيناً فإن خروج مصر من الصراع، وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد، وخروج المقاومة من لبنان، قد أشعر الإسرائيليين وحلفاءهم بالخلاص من قضية فلسطين، وأشعر الفلسطينيين في الداخل بالمرارة، وضرورة التصدي، وعدم الرهان على قيادة الخارج عربياً كان أو فلسطينياً.
كانت قضية دهس سائق شاحنة إسرائيلي لعمال فلسطينيين القشة التي قصمت ظهر البعير- كما يقال -. وقع الحادث في أشدود بجباليا، فخرج الفسطينيون يحتجون على الحادث، فتصدى لهم الجيش الإسرائيلي وأجهزة القمع. وبسرعة البرق تطورت الأحداث. أخذ الأطفال زمام المبادرة متحدين بالحجارة وبصدور عارية آلة الحرب الجهنمية. قتل الأطفال الذين تجاوزوا المئات، والاعتقالات التي ناهزت الآلاف، خلق انتفاضة شعبية عامة غطت كل مدن وقرى فلسطين، وامتدت إلى مناطق 48.
تصاعد التضامن والغضب في الشارع العربي، واتسعت المظاهرات في المدن الأوربية والعديد من بلدان العالم منددة بإسرائيل المتوحشة وبجيشها البربري قاتل أطفال فلسطين، وبدأ التململ وحتى الإنقسام داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه بين اتجاه يدعو للتفاوض وآخر للقمع. وحتى الإدارة الأمريكية الداعمة لإسرائيل بدأت تدعو وتضغط للتفاوض. فوضت قيادة منظمة التحرير الداخل الفلسطيني المؤتلف، والذي ضم ما يقرب من اثني عشر ائتلافاً من أحزاب ومنظمات، وأُعلن لاحقاً عن تأسيس حركة «حماس» ذات الجذور «الإخوانية» لتلتحق بالانتفاضة العفوية والتلقائية في المراحل الأولى، ولعب القائد الفلسطيني، خليل الوزير (أبو جهاد)، دور البطولة في دعم الإنتفاضة في تونس.
قاد التفاوض الأكاديمي حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي في واشنطن، وأعطت أجندة التفاوض مؤشرات مهمة. بغتة، جرى تغيير المتفاوضين، ونقل التفاوض من قيادة الداخل الذي يعيش تفاصيل الإنتفاضة اليومية إلى ما يشبه القناة الأمنية المكونة من أبو مازن القريب من أبو عمار، وبيريز القيادي الصهيوني المؤسس، وانتهت باتفاقات أوسلو 95، وعودة قيادة المنظمة إلى غزة وأريحا أولاً، وهي الإتفاقية التي كرس نقداً لها الدكتور إدوارد سعيد في كتابيه: «غزة وأريحا أولاً: سلام أمريكي»، و«أوسلو 2: سلام بلا أرض»، والأول قدمه هيكل.
كتابا المفكر العالمي، عضو المجلس الوطني الفلسطيني، في تلك المرحلة يكشفان ضعف التفاوض وهشاشة السلام الأمريكي الملغوم بالحروب، واستمرار الإحتلال. وأبو عمار – يرحمه الله – قائد فلسطيني لا يختلف عن الحكام العرب الآتين من حروب التحرير والانقلابات العسكرية. انتهت المفاوضات إلى ما توقعه إدوارد والعديد من المفكرين والمحللين السياسيين، وبقي الإحتلال، وزاد الإستيطان والتهويد والقمع رغم عودة القيادات الفلسطينية إلى غزة. الانتفاضة الثانية
في 28 سبتمبر من العام 2000 ساد شعور ممض من استمرار نهج الإحتلال، واتساع رقعة الإستيطان، واستمرار وتصاعد نهج التهويد وسياسات التمييز العنصري، وطمس الهوية الفلسطينية. كانت المنطقة العربية تشهد صراعاً عقب حرب الخليج الثانية، والحصار المدمر ضد العراق، والثمار الكريهة لحرب 94 في اليمن، ونكوص إسرائيل عن الإتفاقات الإذعانية والتي لا تلبي الحد الأدنى من المطالب الوطنية الفلسطينية، وتحتفظ فيها إسرائيل بأكثر من 60% من الأرض.
فالقيادة اليمينية الإسرائيلية لا تريد السلام بالأساس، وترى أنها الأقدر على الحسم العسكري في أي زمان ومكان، وأن القوة وحدها هي النهج الصائب في التعامل مع العرب بعامة ومع الشعب الفلسطيني بصورة خاصة.
في لحظات الشر هذه، اقتحم أرئيل شارون باحة المسجد الأقصى مدججاً بحراسته المشددة، متحدياً الفلسطينيين والعرب وعموم المسلمين في المسجد الأقصى، ثالث الحرمين الشريفين، وأولى القبلتين للمسلمين، ومسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. تصدى المسلمون لشارون؛ فكانت بداية انتفاضة الأقصى في 9 ديسمبر 2000.
منذ البدء، حرص الإسرائيليون على عسكرة الإنتفاضة والدفع بها إلى المواجهة. «حماس» كانت الأكثر حماساً للمواجهة، وجرى ما يشبه المزايدة والسباق على من هو الأول والأجدر بالقيادة. فـ«حماس» التي لحقت بالانتفاضة الأولى التي انفجرت قبل إعلانها عن نفسها كانت الأكثر حماساً للمواجهة العسكرية، غير مدركة أن الطابع السلمي هو سر الإنتصار على دولة أسسها الجيش، ومجدها قائم على العنف والإرهاب والحروب، وأن التفاف الشعب الفلسطيني من حول الإنتفاضة الأولى أساسه الطابع السلمي العفوي والتلقائي، وهو ما حظي بتعاطف المجتمع الدولي بما في ذلك أوروبا وأمريكا وصحافتهما والرأي العام فيهما.
ومع ذلك، أبلى الفلسطينيون بلاء حسناً، وخاضوا معارك كفاح وطني مجيدة لما يقرب من خمسة أعوام. فيا لهم من أبطال تحدوا جيشاً ماهراً ومدرباً حديثاً ومدججاً بأحدث آلة الحرب العسكرية! قتلوا خلال المواجهات، وجرحوا ما يصل إلى 1069 من الجنود، وأعطبوا خمسين دبابة من أحدث الدبابات في العالم (المركافا)، وكانت خسائر الفلسطينيين أكبر وأفدح. ولكنه دفاع عن الحق في التحرر من نير أطول احتلال استيطاني إسرائيلي قائم على التمييز والفصل العنصري.
اليوم، ونحن نقرأ تجربة انتفاضة الأقصى، وعلى أبواب احتمالات انتفاضة أقصى جديدة، لا بد وأن نستخلص نتائج الإنتفاضة الثانية والأولى. نعرف أن الإنتفاضة الأولى توجت بتعاطف دولي غير مسبوق، وبضغط على إسرائيل من قبل حلفائها الأمريكان والأوربيين للانصياع للسلام. وحققت الإنتفاضة الأولى السلمية ما عجزت عنه جيوش دول المواجهة الثلاث والانتفاضة الثانية، ولم يحققه الكفاح الفلسطيني الحق والمشروع.
فلا نناقش الحق المشروع في كل الملل والنحل والقوانين الدولية، ولكننا نناقش فقط الجدوى والمردود وتحديد الزمان والمكان والشكل أو الأشكال الكفاحية، عائبين على منظمة التحرير الفلسطينية التنازل عن هذا الحق في مؤتمر مجلسها الوطني في الجزائر في العام 1994. لقد حذر ماركس العمال الفرنسيين قبيل أشهر من انفجار كومونة باريس، ولكنه أشاد بها بعد الإنطلاقة عام 1871.
حقاً ألحقت الإنتفاضة الثانية خسائر بإسرائيل، ومرغت أنف جيشها في الوحل، ولكن نتائجها على الثورة والشعب الفلسطيني بحاجة للدراسة والمراجعة، ولا يزال الفلسطينيون يعيشون مآسي تفاصيلها. لعل نتائجها الأخطر الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني القائم حتى اليوم، والاستهانة بالتعاطف العربي والدولي، والتوزع على خارطة الصراع العربي والإقليمي، وتقديم أنموذجين للإدارة لا يختلفان عن نماذج الحكم العربي الموصوم بالفساد والاستبداد والفشل.
تشهد تجارب التاريخ ومواقف وسلوك الطغاة والمستبدين على عدم الإتعاظ والإفادة من عظات التاريخ. يتحدث القرآن الكريم عن أهل النار: «ولو ردوا لعادوا إلى ما نُهوا عنه» [الأنعام: 28]. أما هيجل فيرى أن العظة من التاريخ أن لا أحد يتعظ به. كل مآلات ومصائر الطغاة في عصرنا ماثلة أمام أعين الجميع، ومع ذلك لا أحد يتعظ. قبل ثمانية أعوام، اجتاح أرئيل شارون الأستاذ والأب الروحي لنتنياهو المسجد الأقصى. كانت النتائج كارثية على إسرائيل وجيشها، واستمرت قرابة خمسة أعوام؛ فقد قُتل من الإسرائيليين أكثر مما قُتل في كل الحروب العربية وفي المواجهات مع المقاومة الفلسطينية المسلحة. وطبيعي أن تكون التضحيات في الشعب الفلسطيني الأعزل أكبر وأفدح، ولكنها ضريبة الدفاع عن سيادة واستقلال وطن محتل.
يعاود تلميذ شارون البليد الاعتداء على المسجد الأقصى بنصب بوابات رقابية، ويزرع أجهزة تنصت وتصوير المصلين. ويتصدى الفلسطينيون للدفاع عن قدس مقدساتهم في مواجهة الجيش والأمن الملطخة أياديهم بالدماء الفلسطينية. المعركة الآن في بدايتها. تراهن إسرائيل على التفكك العربي حد الإنهيار، وتحول الصراع في المنطقة من صراع عربي – إسرائيلي إلى صراع عربي – فارسي، ورغبة حكام العرب في صفاء علاقتهم بالأمريكان والإسرائيليين بعد أن تأكد لهم أن شعوبهم هي العدو الحقيقي، وهو ما تريده إسرائيل بالأساس والأنظمة الطوائفية العربية وإيران وامتداداتها الطائفية، ويقف الأمريكان وتجار السلاح في العالم وراء هذا الصراع المدمر للأمة العربية كلها.
إسرائيل – ككل الطغاة المستعمرين والمستبدين – تعتقد خطأ أن القوة أقوى من الحق، وأن الوضع القيادي الفلسطيني في أنموذجيه السيئين والمسيئين في غزة ورام الله فرصتها الذهبية لطمس الحق الفلسطيني، وابتلاع ما تبقى من الأرض الفلسطينية، وطمس الهوية والمقدسات، وترى أن الوضع العربي يؤهلها لا لابتلاع ما تبقى من فلسطين، وإنما للمشاركة كطرف أساس في إعادة صياغة المنطقة على الأسس الإثنية والطائفية، وفي التحالف مع الوضع الجديد.
تخلف وفساد الأنظمة العربية وانهياراتها الشاملة، وتقدم وتفوق إسرائيل إغراء له نكهة مكر التاريخ. مفردات القوة والعنف والإرهاب مجال إجادة إسرائيل وميدان تفوقها ومقتلها الحقيقي. سلاح الحجارة المدني الذي بشر به حنظلة في رسمتين شهيرتين للشهيد الفنان المبدع ناجي العلي، وامتشقه الطفل الفلسطيني في الانتفاضة الأولى، كان الفاتحة لانتفاضات شعبية سلمية عمت الأرض العربية من الماء إلى الماء، ودللت على أن مصير الإستعمار الخارجي والداخلي واحد، وأن النضال ضدهما لا يتجزأ، وأن الارتباط بينهما قوي حد التماهي.