قطر التي لم تشفع لها حفاوة الإستقبال المهيب للملك سلمان أثناء زيارته للدوحة مؤخراً في جولته الخليجية، وأداؤه لرقصة العرضة مع أميرها، لم تشفع لها أيضاً مواقفها الثابتة في صف المملكة تجاه الأزمة السورية، ودعمها اللامحدود للمعارضة السورية لإسقاط نظام الأسد حليف إيران في المنطقة، وكذا مواقفها الثابتة تجاه الأزمة اليمنية ووقوفها بجانب المملكة الداعمة لـ«الشرعية»، وإرسالها قوة برية إلى الحدود الجنوبية للمملكة، ناهيك عن مشاركتها الواسعة في عمليتي «عاصفة الحزم» و«إعادة الأمل» في اليمن.
قطر البراغماتية التي لم يشفع لها كذلك موقفها الواضح من إصدار قانون «جاستا»، حيث كانت من أوائل الدول السباقة في إدانة هذا القانون الذي يستهدف المملكة، والذي يجيز لذوي الضحايا في الولايات المتحدة مقاضاتها في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، هاهي اليوم تواجه عزلة خليجية، وكل مواقفها السابقة ذهبت أدراج الرياح فور إعادة العلاقة السعودية – الأمريكية إلى سابق عهدها وكسر الجليد الذي كان يعتريها.
فالرياض يبدو أنها وجدت الحضن الدافئ بعد جفاء وغياب خلال مرحلة الرئيس أوباما الأخيرة، وبالتالي من الطبيعي أن تستغني عن بعض من حلفائها، بعدما وجدت ضالتها عقب الزيارة الناجحة لولي ولي العهد السعودي إلى واشنطن، والتي من خلالها اكتشفت الرياض الطريقة اللازمة لتحقيق استدارة كاملة نحو واشنطن، وإعادة العلاقات الإستراتيجية بينهما إلى سابق عهدها. وبالتالي، لم يكن أمام الرياض في هذه المرحلة لكي تثبت صدق توجهها إلا أن تسعى لمعاقبة قطر، التي خرجت عن عباءتها لعقدين من الزمن، وغردت خارج السرب الخليجي، حيث جابت العديد من العواصم والأقطار، ورعت الكثير من الإتفاقيات والمصالحات بين الفرقاء في الكثير من الأقطار، ولعبت على المتناقضات، وأُخذ عليها مؤخراً دعمها ووقوفها خلف ثورات «الربيع العربي»، وهاهي اليوم تواجه عقوبات خليجية من بعض دول مجلس التعاون، وعلى رأسها المملكة التي وجدت نفسها مضطرة لاتخاذ إجراءات قاسية تجاهها، نزولاً عند رغبة بن زايد، خوفاً من أن يسعى إلى تعكير أجواء عودة العلاقات الأمريكية السعودية إلى سابق عهدها، بعد أن طار إلى واشنطن والتقى ترامب في البيت الأبيض قبيل انعقاد القمم الأخيرة في الرياض بأسبوع واحد.
هذه الزيارة لبن زايد كان لها الدور الفاعل في تعكير صفو العلاقة السعودية القطرية، بعدما طرح بن زايد رأياً للرئيس ترامب يتعلق بوقف تمويل النشاطات الإرهابية لبعض المنظمات، ومنها جماعة «الإخوان المسلمين» وحركة «حماس»، اللتين يتواجد بعض من قيادتهما في قطر، وتضمين ذلك في قمة الرياض، وهي الفكرة التي استحسنها ترامب في لي أذرع قطر وتحجيمها وإبعادها عن دعم تلك الجماعات، بعيداً عن الولايات المتحدة التي، إلى الآن، لم تصنف جماعة «الإخوان» على قوائم الإرهاب.
ولئن كانت المملكة حريصة على أن تكون المالك الحصري لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة دون منازع، فقد سارعت إلى اتخاذ موقف مغاير عما كان نظام سلمان قد شرع في اتخاذه خلال المراحل الأولى من حكمه، والذي كانت أبرز محطاته تشكيل «تحالف عربي»، وقيام مناورة «رعد الشمال»، بالإضافة إلى بناء تحالفات استراتيجية مع تركيا، الدولة الإقليمية السنية القوية في المنطقة، وكذا الإعلان عن «تحالف عسكري إسلامي لمحاربة الإرهاب»، كما تردد حينها عن عزم المملكة عن شطب جماعة «الإخوان» من قوائم الإرهاب، كخطوة مهمة في طريق الإصطفاف لمواجهة المد الشيعي، واستقبال سلمان لقادة حركة «حماس»، وإيواء بعض الشخصيات التي تصنفها أمريكا على قوائم الإرهاب.
طبعاً تلك كانت أهم التوجهات التي قام عليها نظام حكم الملك سلمان قبيل صعود ترامب، لكن يبدو أن هناك تغييراً كبيراً في سياسة سلمان وعودتها إلى السياسة السابقة في عهد التويجري، عقب صعود ترامب إلى دفة الحكم في أمريكا، غير أن هذه العلاقة لن تدوم طويلاً باعتقادنا، فهناك من سيسعى إلى رسم أحداث سبتمبر جديدة للإيقاع بينهما. لكن ما يثير استغرابنا أكثر هو موقف البعض من هذه الأزمة، فـ«مصر السفارة في العمارة» مثلاً تبرر مقاطعتها لقطر بأن الأخيرة تثار شكوك حول احتفاظها بعلاقة مع إسرائيل، في حين أن الإمارات التي تحتضن دحلان وأحمد شفيق تبرر مقاطعتها لقطر بأن الأخيرة تحتضن مشعل والشيخ القرضاوي!
والسؤال؟ هل يُفسّر ما جرى من تصعيد خليجي وسعودي ضد قطر وقطع العلاقات معها على أنه مسرحية باتفاق مسبق بين الرياض وأبوظبي، يراد من ورائه إيهام الآخرين بوجود خلاف من أجل خلق أجواء إيجابية لحسم معركة «التحالف» في اليمن والتي تعترضها الكثير من المعوقات، وإرضاء الحليف اللدود، الإمارات، وكسب ود أمريكا والغرب وإقناعما بأن السعودية وأميرها الشاب حليف موثوق به، ومن ثم إشغالهما بالأزمة الخليجية، وإفساح المجال أمام «التحالف العربي» لتحقيق أهدافه التي عجز عن تحقيقها حتى الآن، وما إن تنجح مهمة «التحالف» في اليمن حتى تعود العلاقة بينهما إلى سابق عهدها؟
أم أن الخلاف الناشئ حقيقي ومرتبط بالعوامل التي ذكرنا سابقاً، بالإضافة إلى التخوف من الدور التركي القادم في المنطقة عقب الإستفتاء التركي الأخير، والذي كان قد عجز الغرب عن منعه، وبالتالي لم يكن لديهم من خيار سوى تحجيم حلفاء تركيا في المنطقة ومنهم قطر، وهي الدولة التي وقفت بكل ثقلها ضد الإنقلاب الفاشل في تركيا، خاصة بعدما ترددت إلى مسامعنا قبل أيام من اندلاع الأزمة الخليجية نية المملكة إلغاء صفقة السفن الحربية مع تركيا والمقدرة بمليارَي دولار، ما يعني أن العلاقات السعودية التركية ستكون على المحك، وقد تشهد في الأيام القادمة فتوراً وتراجعاً إلى سابق عهدها مثلما كانت في عهد الملك عبد الله أو ربما أسوأ بكثير؟ وهذا هو الأرجح إذا لم يتم احتواء الأزمة الخليجية في أقرب وقت، والأيام القادمة حبلى بالمفاجأت.