قبل أعوام، وتحديداً عام 1988، كتب الباحث المهم، فوزي منصور، كتابه «خروج العرب من التاريخ». حينها، كانت القوة العسكرية العربية ما تزال موجودة، والأنظمة العربية قوية بما يكفي لتدمير شعوبها، وكان الإتحاد السوفيتي ومنظومته الإشتراكية ما يزال قائماً. كان الكتاب المهم في جانب منه استشرافاً ونبوءة ثورية، تقرأ عميقاً كف مستقبل الإنهيار الآتي. ثورة الربيع العربي كشفت هشاشة هذه الأنظمة وضعفها وفاشيتها وفسادها ودكتاتوريتها وتغولها ضد شعوبها، وعداءها الشديد للحرية والديمقراطية والتغيير.
يتحدث التاريخ العربي والإسلامي عن أمم وشعوب وقبائل أبيدت: عاد وثمود وطسم وجديس وو… إلخ. وعالمياً، هناك حضارات وأمم وشعوب سادت ثم بادت. ما يجري اليوم على الأرض العربية مؤشراته بالغة الخطورة، وتعظ بأمم سادت ثم بادت. العراق الذي عرف الدولة قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة تُدمّر دولته، ويُمزّق نسيج مجتمعه، ويقتل أبناؤه، وتنبعث الصراعات فيه من كل لون وشكل بتمويل وتجييش عربي، وبتدخل جواره الطامع: الإيراني والتركي، وتنهب ثرواته، ويراد له العودة إلى عصور ما قبل التاريخ، تباد فيه الأقليات المتنوعة والمتعددة، وتغادر أرضها كرهاً هرباً من الموت. أدت دكتاتورية صدام ونزعته العسكرية الفاشية وحروبه المجنونة إلى تدمير العراق، وأدى الإستعمار الداخلي إلى جذب الإستعمار الخارجي، وكانت حرب الحلف الثلاثيني الذي قادته أمريكا بتمويل خليجي، ومشاركة أنظمة عربية. الانهيار والكارثة للأمة العربية كلها.
أما في سوريا، أرض حضارات السومريين والعموريين والآراميين والأوغارتية والفينيقية، وأخيراً الدولة العربية الإسلامية لقرون عديدة، وأول بلد عربي يعلن الجمهورية، وعرف الإنتخابات والدستور منذ منتصف القرن الماضي، يحكمه حافظ الأسد بقبضة حديدية وبكارزيما توهم بـ«التوازن الإستراتيجي» مع العدو الإسرائيلي، فتكون النتيجة توريث ابنه بشار سوريا كضيعة، وتحل الكارثة في إعلان الحرب ضد شعبه المحتج على حكم الفاشي، وتدخل إيران و«حزب الله» وتركيا ودول الخليج وروسيا وأمريكا لتدمير سوريا بحرب إبادة لها أول وليس لها آخر. الحزب الذي رفع شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» يتحول إلى عنصري طائفي، ويتقاطع مع المليشيات الإرهابية في تدمير سوريا.
ليبيا حكمها القذافي بالسلاح والشعوذة والجهل، وهي الآن تُمزّق شر ممزّق بالصراعات الداخلية وبالتدخل الخليجي وبمشاركة أمريكية وأوروبية. تُدمّر الوحدة الوطنية المتعايشة والمتآخية لمئات وآلاف السنين في مصر. تُصفّى ثورة «الربيع العربي» بتحالف «الإخوان المسلمين» والعسكر، ويُقصى ويُقتل شباب الثورة الشعبية السلمية، ويُبعدون بالاعتقال والتهديد والقتل، ثم يقوم العسكر بالانقلاب على حلفائهم «الإخوان»، وتُفتح لهم أبواب السجون، ويُحكم على العشرات والمئات منهم بالإعدام والمؤبد والسجن لمدد متفاوتة، ثم يُجرّمون ويُحظر نشاطهم، ويُتّهمون بالإرهاب. يُفرج عن رأس النظام الفاسد ورموزه، وتُصدر أحكام غاية في القسوة ضد «الإخوان المسلمين»، الأخوة الأعداء، الذين اشتغل النظام بهم وعليهم منذ ثورة 23 يوليو 1952، فكانوا جلادين وضحايا في آن، ابتداءً من فاروق، مروراً بناصر والسادات، وصولاً إلى السيسي، ليشتعل العنف والفتنة الطائفية.
اليمن هو الأسوأ حالاً وأوضاعاً؛ فالبلد يُحضر لحرب الكل ضد الكل
اليمن هو الأسوأ حالاً وأوضاعاً؛ فالبلد يُحضر لحرب الكل ضد الكل. تمزق وشتات، قتلى بسبب الأوبئة الفتاكة، وجوع ينافس أو يتفوق على قتلى الحروب الداخلية والخارجية، الحصار الداخلي والخارجي والتدمير سيد الموقف. يتلاشى النظام العربي وينهار. دُمرت قوته العسكرية، وتُمزق وحداته الوطنية، ويُنكّل بأقلّياته المنقوصة المواطنة، ثم يُزجّ بها في حروب أهلية مدمرة ممولة بالمال العربي. الشعوب العربية التي انطلقت منها الثورات القومية: تونس، مصر، سوريا، العراق، اليمن، ليبيا، الجزائر، هي أيضاً المناطق الخطرة التي تهب منها رياح التغيير العربي (ثورات الإحتجاج السلمي)، وهي الآن مناطق الحروب الأهلية. سلطاتها الفاشية تعلن الحرب على شعوبها.
المفارقة الراعبة أن الأطراف المتحاربة الداخلية والخارجية كلها معادية لشعوبها، وضداً على ثورات الربيع العربي، لكأنها وهي تتقاتل مع بعضها لا هدف لها غير قطع الطريق على المستقبل العربي، وعلى ثورة سلمية ديمقراطية، والإمعان في تدمير مراكز الحضارة. ثم إن الأطراف – إذا ما جرى تفكيك تحالفاتها المدخولة – متعادية مع بعضها ومع نفسها أحياناً، وداخل كل طرف على حدة صراعات داخلية مروعة؛ فالإيرانيون و«حزب الله» والروس – وهم جبهة واحدة – متعادون، ولكل منهم موقف ضد الآخر، فعلى سبيل المثال روسيا قد تقبل بتنحية الأسد، وقد لمحت إلى ذلك أكثر من مرة، أما إيران و«حزب الله» فلا يقبلون بذلك؛ لأن بقاءهم مرتبط بوجوده، ولكل منهم حساباته الخاصة.
تركيا وأمريكا، وهما في رأس الـ«نيتو»، ويعود تحالفهم إلى عدة عقود، لكل منهم موقف مختلف. تدعم أمريكا «قوات سوريا الديمقراطية» التي تضم الفصيل الكردي المعادي لتركيا، وتقطع الطريق على الوجود التركي في شمال سوريا. وهناك دلائل مهمة على دعم تركيا لبعض الفصائل الإرهابية المقاتلة في سوريا والعراق بالتعاون مع دول الخليج والسعودية. موقف أمريكا مع حلفائها في الخليج مفهوم. ففي عهد أوباما (الديمقراطي) جرى تشجيع قطر والإمارات العربية، وحينها رأت الإدارة الأمريكية أن إيران لا تمثل الخطر على دول الخليج، وأن الخطر الحقيقي على هذه الأنظمة هي أوضاعها الداخلية: غياب الديمقراطية، والحرية، والمواطنة الحقيقية، وفساد هذه الأنظمة واستبدادها. شجعت هذه السياسة إيران على التدخل أكثر فأكثر في لبنان وسوريا، ودعم «حماس»، والتدخل في اليمن، وابتعدت قطر عن السعودية، وحاولت أن تمد نفوذها عربياً عبر دعم «الإخوان» في غير منطقة، وكانت إدارة الملك عبد الله الإنفتاحية غير متصادمة مع التوجه الأمريكي.
تزامن مجيء الملك سلمان والحرب في اليمن مع مجيء ترامب، الرئيس الشعبوي الذي يبيع السياسة والمواقف كالسلاح، فتقارب مع المملكة العربية السعودية في توجهها الجديد المعبر أساساً عن توجه المملكة لقيادة «الإسلام السني» في مواجهة «الإسلام الشيعي»، الذي تتبناه وتنتهجه إيران وأذرعها الشيعية السياسية في سوريا ولبنان وبغداد وإلى حد ما اليمن. للنظام الإيراني مصلحة في تحزيب «الإسلام الشيعي»، باعتبار إيران دولة طائفية تحكم بالمذهب الإثني عشري بحسب المادة 12 من الدستور الإيراني، وهو ما يتصادم مباشرة مع طبيعة النظام السعودي كنظام مذهبي سني وهابي يتزعم البلدان الإسلامية السنية، وهو ما يختلف فيه مع تركيا ومصر رغم التوافق في جوانب أخرى.
ومع ذلك، يحرص النظامان الإيراني والسعودي على إعطاء الصراع بعداً طائفياً، لأنه يخدم ويعزز نفوذهما، ويوسع قاعدتهما. فالطائفية جوهر وطبيعة هذين النظامان. فالطائفية، وهي بالدرجة الأولى موجهة ضد شعبيهما، تقوم أيضاً بالتعمية على طبيعة الصراع، وحرفه عن مساره الوطني الديمقراطي كتعبير عن طموح وإرادة الأمة العربية للخلاص من الرجعية والاستعمار منذ القرن الماضي في غير قطر عربي. وكانت الثورات العربية المغدورة والانقلابات العسكرية وأكثر من تمرد وحرب تمتطي أو تتوسل هذه المهمة.
ثورات الربيع العربي تجلت في الثورة الشبابية السلمية، وطرحت البعد العميق لخيار النظام الوطني الديمقراطي. هذا النهج يعاديه نظام الآيات؛ لأنه يضع البديل لولايةِ الفقيه ولايةَ الأمة كلها (الشعب مصدر كل السلطات)، وهذا ما لا تريده تركيا الجانحة للخلافة الإسلامية (طاعة ولي الأمر)، وكل الحكم العربي لا يقبل به، والاستثناء الوحيد تونس. الكيانات العربية في مجملها آيلة للسقوط، والحرب فقط هي ما يطيل من عمرها؛ ليتم التوافق على الاقتسام، وإعادة الصياغة، ورسم خرائط سايكس بيكو الثانية. دول الخليج وتركيا وإيران وروسيا وأمريكا يدعمون الحرب، وهم الصناع الحقيقيون لها، وكل طرف يتهم الطرف أو الأطراف الأخرى بالإرهاب، وكلهم محارب شرس ضد هذا الإرهاب المصنوع والممول منهم.
لا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء ليدرك أن الخلافات في بقايا النظام العربي، وحروب هذه الأنظمة مع شعوبها ومع بعضها، واستنزاف ثرواتها في تمويل الحروب المجنونة، وفي الإنفاق الباذخ على السلاح على حساب التنمية والبناء ورخاء شعوبها وازدهارها وأمنها هي الطريق الأقصر للسقوط. الخلافات المدمرة ليست حكراً على السلطات العربية البالية والآيلة للسقوط، وإنما تمتد إلى قاع المجتمعات العربية، وإلى الأحزاب السياسية، ومفردات المجتمع الأهلي والمدني