الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
رحلة شيقة في التاريخ القديم لليمن السعيد منذ العصور الحجرية
أثبتت المكتشفات والمسوحات الآثارية في بلاد اليمن استيطان الإنسان في هذا الجزء من الوطن العربي خلال العصور الحجرية الأولى(lower palaetihic) قبل أكثر من ربع مليون سنة.
كما تدل الصناعات الحجرية المبكرة وأشكالها على صلات بشرية قامت في تلك الحقب السحيقة من العصر الحجري بين هذا الركن من البلاد العربية وبين مواطن الإنسان الأولى في شرقي أفريقيا عبر جسور أرضية في منطقة باب المندب آنذاك. واستمرت اليمن القديمة في تطوير أدواتها الحجرية التي تألفت من فؤوس يدوية معمولة من لب الحجارة .ثم تحول إنتاجها إلى أنواع المقاشط والسكاكين وروؤس السهام من الشظايا، وذلك خلال المراحل المتقدمة من العصر الحجري القديم وأوائل العصر الحجري الحديث (Neolithic) إلا أن حضارة العصر الحجري الحديث لم تستكمل شروطها في هذا الجزء من الوطن العربي مبكراً كما كانت الحال عليه في بلاد الرافدين وبلاد الشام حيث ظهرت فيها أولى بواكير التدجين والزراعة قبل أكثر من عشرة آلاف سنة، بينما تأخرت في الظهور في اليمن حتى مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، وتأخرت كذلك إقامة أولى القرى الزراعية وقيام مشاريع الري حتى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد،كما هي عليه الحال في موقع هجر بن حميد في وادي بيحان الذي تقع عنده مدينة تمنع عاصمة مملكة قتبان القديمة.
يجمع الباحثون في الدراسات اليمنية القديمة على أن بداية ظهور الحضارة اليمنية القديمة كان خلال النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد. وقد كان أبرز مظاهرها مشاريع الري الواسعة والمنطقة التي صارت بالتالي السمة الأساسية لحضارة جنوب الجزيرة العربية وبلاد اليمن السعيد. لقد تمركزت المستوطنات الزراعية الأولى في بلاد اليمن في أطراف الوديان الرئيسة وبخاصة وادي بيجان ووادي حضر موت وغيرهما من الوديان. وقد أدت أعمال السيطرة على تنظيم المياه وادامة مشاريع الري إلى ظهور الحاجة إلى قيام تنظيمات اجتماعية ودينية وسياسية.
فشهدت بلاد اليمن بهذا التطورات البشرية أملتها الظروف الاقتصادية فقامت زعامات محلية ومشيخات صغيرة في حدود مجموعة قرى تعمتد مورداً مائياً معيناً أدت إلى مصالح متداخلة لمجاميع من القرى تنتشر في مساحة جغرافية واسعة. وانتهت المصالح الزارعية المشتركة والتبادل التجاري إلى نوع من الروابط الجماعية تبلورت في سلطات دينية- دنيوية بزعامة المكاربة(جمع مكرب وهو الكاهن الأعظم) وهي كثيرة الشبه بسلطات السيد أو الحاكم (أن En أو أنسي Ensi ) المزدوجة (دينية –دنيوية) في العراق القديم قبل ظهور الملكية في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد. ولما تحققت للمكاربة ارباح طائلة من تجارة البخور والطيب، وصارت منتوجاتهم هذه تصل إلى عواصم العالم القديم آنذاك، إلى بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر واليونان، أخذت مكانتهم السياسية بالتبدل. فتحول المكرب من كاهن أعظم إلى ملك له السلطة الدنيوية المطلقة، مع حق الاشراف على شؤون الآلهة والمعابد، كما كانت الحال عليه في معظم حضارات العالم القديم الأخرى. وعند ذلك شهدت بلاد اليمن قيام الدولة والمماليك المعظمة، وكان أبرزها ست دول معروفة دامت نحو ألف وخمسمائة سنة، وقد تفاوتت زمنياً في ظهورها، كما عاصرت بعضها البعض وضمت أحداها إلى الأخرى وكَّونت في الآخر دولة يمنية مركزية واحدة. وقد قامت دولة اليمن هذه في الأقسام الجنوبية غرباً، وخليج عدن وساحل حضر موت جنوباً، ونجران واطراف الربع الخالي(الدهماء) شمالاً. إلا أن المؤثرات اليمنية، بما فيها المستوطنات والمحطات التجارية، قد انتشرت في رقعة واسعة خارج هذه الحدود. وقد انتقل اليمانيون قديماً بلغتهم وكتاباتهم إلى الحبشة والصومال كما انتشروا شمالاً في مدن وواحات الحجاز ومحطاته التجارية.
ولإظهار المزيد من الإطار التاريخي لبلاد اليمن نرى من المفيد اعطاء خلاصة موجزة عن كل دولة من دول اليمن الست، مبتدئين بأقدمها وأشهرها وهي دولة سبأ التي ظهرت في مطلع القرن العاشر قبل الميلاد وانتهى نفوذها السياسي في القرن الثالث الميلادي، وكانت عاصمة سبأ الأولى صرواح ثم صارت بعدئذ مأرب التي ما زالت آثارها ظاهرة للعيان، قرب سد مأرب الشهير الذي شُيد في مطلع القرن السابع قبل الميلاد، بجانب عدد آخر من المستوطنات والمواقع الأثرية المنتشرة في رقعة واسعة من بلاد اليمن.ودولة حضرموت التي برز نفوذها أيضاً خلال القرن العاشر قبل الميلاد وخبا بريقها خلال القرن الثالث الميلادي، وهي أحدى أقوى دول اليمن القديمة التي مرّت بفترات ازدهار ورقي حضاري كبير تشهد عليه بقاياها الغنية التي كشفت عنها التنقيبات والاستكشافات الآثارية في محافظتي شبوه وحضر موت. وفي بداية قيام هذه الدولة(حضر موت) اتخذت من مدينة ميفعة عاصمة لها، ثم صارت شبوه بعدئذ العاصمة الرئيسة لحضر موت ومركز النشاط التجاري البارز للدولة. كانت التجارة أبرز مظهر اقتصادي للدولة. ومما زاد في مكانتها الاقتصادية قيام مدينة ظفار الشهيرة بانتاج البخور واللبان في أراضيها. وقد تطلب هذا إيجاد موانئ متعددة على الساحل من أبرزها قنا وسمهرم، وكانت حضر موت تصدر وتستقبل الكثير من السلع عبر المواني. وقد ضمت دولة حضرموت إليها في عام 210م دولة قتبان، غير أنها دخلت بدورها في أواخر القرن الثالث الميلادي، في إطار الدولة المركزية الحميرية، وقامت قتبان في القرن الثالث الميلادي، في إطار الدولة المركزية الحميرية. وقامت قتبان في القرن الثامن قبل الميلاد في وادي بيحان الخصب واتخذت من مدينة تمنع عاصمة لها، وتدعى بقاياها اليوم حجر كحلان، وتقع في محافظة شبوه، وعندما أحرقتها قوات حضر موت، انتقلت العاصمة إلى مكان آخر تُعرف بقاياه اليوم بـ هجر بن حميد في منطقة بيحان أيضاً.
اشتهرت دولة فتيان بنشاطها التجاري كغيرها من دول اليمن المعاصر لها، وقد تركت مخلفات وشواهد أثرية وتاريخية عديدة تنبئ بعظمة ورقي تلك الدولة، ومن أبرزها وثيقة قانونية مهمة بالخط المسند عُرفت بين المهتمين بالدراسات اليمنية باسم القانون التجاري ونظمت بموجبه تجارة الدولة مع التجار الآخرين، وانتهت دولة قتبان ككيان سياسي في عام 210م، بعد حرب طاحنة مع مملكة حضر موت التي ضمتها إليها نتيجة تلك الحرب. برزت دولة معين في القرن الثامن قبل الميلاد في منطقة الجوف واتخذت من قرنا وعاصمة لها. ومن أبرز مدنها: نشن ونشق ونجران،تعد معين من أشهر دول اليمن القديمة على الأطلاق، وذلك بسبب دورها التجاري البارز مع العالم الخارجي. فقد عثر على نقوش (كتابات) معينية في جزيرة ديلوس في اليونان وفي مصر وريدان(العلا الحالية) في الحجارة وكانت محطة تجارية على طريق القوافل بين اليمن وسواحل البحر الأبيض المتوسط.
واختفت دولة معين من المسرح السياسي في القرن الثاني قبل الميلاد عندما ضمتها دولة سبأ إليها. وقامت في القرن السابع قبل الميلاد واحدة من أقوى دول اليمن القديمة وعرفت بدولة اوسان. إلا أنها لم تدم طويلاً، إذ قضى على استقلالها الحلف المتكّون من دول سبأ وحضرموت وقتبان في عام 410 قبل الميلاد، كما قضى على معظم مدنها، حتى أن عاصمتها لا تُعرف على وجه الدقة. وربما كانت في الموضع الذي يعرف الآن باسم هجر الناب. لقد استطاعت دولة اوسان أيام عزها وقوتها السيطرة على أهم مينائين في اليمن القديمة وهما: عدن وقنا، كما سيطرت علىعدد من المناطق التابعة لدولتي قتبان وسبأ. والكثير من أثار هذه الدولة تشاهد الآن في متحف مدينة عدن.
في القرن الثالث الميلادي استطاعت قبيلة حِمير بقيادة ياسر يهنعم، وفيما بعد إبنه شمريهرعش، توحيد بلاد اليمن بدولة مركزية واحدة عرفت في النقوش (الكتابات) اليمنية بدولة سبأ وذي ريدان وحضر موت ويمنت، وأتخذت من مدينة ظفار عاصمة لها. وفي القرن الخامس الميلادي، وعلى عهد ملكها اسعد كرب ضمت إليها المناطق الواقعة شمالاً وحتى اواسط شبه الجزيرة العربية وصارت تعرف بدولة سبأ وذي ريدان وحضر موت ويمنت وأعرابهم في الجبال والتهائم. وفي مطلع القرن السادس الميلادي انتابت بوادر الضعف هذه الدولة اليمنية المركزية بسبب توالي الغزو الأجنبي لليمن وبالأخص الاكسوميين الأحباش الذين شنوا حملات متواصلة على اليمن في هذا القرن أبرزها حملة عام 516 م وحملة عام 525م التي انتهت بسقوط الدولة اليمنية واحتلال اليمن من قبل الاحباش. وقد تصدى اليمنيون لهذه الغزوات بقيادة ذي نؤاس الذي خاض نضالاً إسطورياً ضد الغزاة،إلا أنه لقي حتفه في معركة عام 525م . واستمر احتلال الاحباش لليمن حتى عام 578م، وحدثت خلال تلك المدة انتفاضات عديدة ضد الوجود الاجنبي، أبرزها ثورة سيف بن ذي يزن، وزال في اعقابها احتلال الحبشة لليمن، إلا أن الفرس الساسانيين حلوا محل الاحباش في احتلاله عام 598م. ولم ينته احتلالهم لهذا الجزء من الوطن العربي حتى جاء التحرير العربي الإسلامي في أواخر حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
أبرز مظاهر الحضارة اليمنية: قامت الحضارة اليمنية على أسس اقتصادية متينة قوامها تجارة دولية مزدهرة فضلاً عن مواردها الزراعية المستندة إلى نظام ري دقيق متقن. اشتهرت العطور العربية بشكل خاص في انحاء العالم القديم، فقد كانت تصدر بحراً وعن طريق القوافل إلى بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر وبلاد اليونان وروما. وكانت بلاد اليمن مركزا ًتجاريا ًمهما لتبادل السلع بين الهند وبلاد الشام ومصر وجزر بحر إيجة ، وذلك بسبب موقعها الجغرافي الخاص . فقد أقام البسئيون موانيء مهمة في سواحل الهند وأفريقيا اتاحت لهم السيطرة على تجارة الذهب والبخور والمر واخشاب الزينة التي تصدرها تلك المناطق إلى دول الشمال.
اعتمدت زراعة اليمن على الري وتنظيمه، كما اعتمدت على تشييد السدود في مضايق الوديان البارزة. وأكثر ما اشتهرت به اليمن القديمة من هذه السدود سد مأرب الذي شيدته الدولة السبأية في مطلع القرن السابع قبل الميلاد، أو قبل ذلك بقليل، وأتخذت مدينة مأرب عاصمة لها، وذلك في أواخر حكم المكاربة الكهنة العظام، وقد شُيد هذا السد للتحكم في مصادر المياه في وادي اذنه وخزنها لاغراض الري،وشيد سد مأرب من التراب بارتفاع أربعة أمتار فوق مستوى عقيق الوادي وغلفت جوانبه بحجارة كبيرة مهندمة، إلا أن ارتفاع بقاياه الآن تزيد عن أربعة عشر متراً وهذا ناجم بالطبع عما اضيف إلى بدنه من زيادات اقتضتها طبيعة التراكمات التي كانت تزيد في مستوى ارتفاع قاع الوادي. وتُشاهد على بعض حجارة السد كتابات تشير إلى عدد أعمال الترميم التي اجريت في بدنه في مختلف الازمنة. وكان أحد هذه الترميمات قد تم عام 450 ميلادية وأجراه الملك شرحبيل بن يعفر. وهناك إشارات إلى ترميم آخر تم في 542 ميلادية ايام الاحتلال الحبشي لليمن. وتحمل قاعدة السد كتابات تشير إلى زمن المباشرة بتشييده. وربما يُعزى انهيار سد مأرب في أواخر حكم الأحباش لليمن إلى ضعف السلطة المركزية وانتشار الفوضى واهمال أعمال الصيانة في اقسام السد المختلفة ويعوز الأخباريون العرب تشتت السبئيين(تفرق أيدي سبأ) إلى انهيار سد مأرب، وهم يلمحون بذلك إلى أحد أسباب اندثار حضارة اليمن القديمة.
إن غنى جزيرة العرب بالحجارة، وبحجر الجرانيت المناسب للبناء بشكل خاص، جعل اليمانيين يعتمدونها في البناء بصورة واسعة بالأخص في عمائرهم الدينية ومدافن عظمائهم وقصورهم وقلاعهم كما اعتمدوا أيضاً الاخشاب التي كانت توفرها الغابات في تلك الأزمان. واستخدم اليمنيون في سقوف مبانيهم وتيجان أعمدتهم الطابوق باشكال مختلفة كما برعوا في نحت وهندسة الحجارة التي تدخل في تشييد واجهات المباني واعمدتها. وبذلوا عناية كبيرة في تزيين تلك الجدران والأعمدة بفصوص من الذهب وغيرها من المعادن التي كانت بلاد اليمن غنية بها. استخدم اليمنيون في عماراتهم الأعمدة بكثرة بنوعيها المربعة والإسطورية. كما نحتوا انصاباً عالية زينوها بنقوش كتابية وشيدوا معابدهم باشكال بيضوية أو مربعة، ومعبد مدينة مأرب البيضوي الكبير خير مثال على النوع الأول من عمارة اليمن القديمة.
وقد كشفت التنقيبات عن سوره البيضوي الشكل أيضاً. تزين واجهة معبد مدينة مأرب الكبير ثمانية أعمدة مربعة الشكل. ومدخله الرئيس مكون من ثلاثة أبواب متلاصقة تؤدي إلى الرواق. وفي هذا الرواق منفذ واحد يقود إلى فناء المعبد الواسع. ومن الأمثلة الجيدة على طراز المعابد المربعة في جنوبي الجزيرة العربية الذي أظهرته الحفريات أخيراً معبد خور روري الكائن حاليا ًفي سلطنة عُمان. وجدران هذا المعبد بالغة السمك، إذا يبلغ سمكها أكثر من عشرة أقدام. ولهذا المعبد مدخل واحد ضيق أقيم في جداره الشرقي. وفي بناء المعبد مذبحان وبئر يتصل بها صهريج للماء، وكشف في اليمن أيضاً عن عدد من القلاع المشيدة بعدة طوابق، كما كشف عن ابراج واسوار مدافن شيدت جميعها من الحجارة المهندمة أو الطابوق. كان بناء السدود في اليمن القديمة نوعاً من الفن المعماري الدنيوي له اهميته الخاصة. وقد أظهرت التنقيبات في منطقة تمنع عاصمة دولة قتبان، عن شبكة كاملة من السدود تصل بها قنوات وصهاريج لتوفير مياه الري لرقعة واسعة من البلاد. وكانت ابنية المدافن موضع عناية خاصة عند اليمانيين، وقد كشفت عن غرف دفن واضرحة وانصاب تزينها في الغالب صورة المتوفي ونقش(كتابة) تذكاري، كما كشفت في تمنع عن مدافن نحتت في الصخر تضم أثاثاً ولوازم لاحتياجات المتوفى لرحلته إلى العالم الآخر، كما كشفت فيها العديد من النقوش (الكتابات) التذكارية.
لم يبلغ فن النحت في اليمن ما بلغته العمارة فيها من رقيّ وازدهار وكان النمط السائد في النحت تماثيل صغيرة لأشخاص توضع عادة في المعابد قرابين ونذور. وقد عثر على عدة من التماثيل البرونزية الجميلة لنساء ورجال، كما كشفت عن أنواع من تماثيل لحيوانات اليفة من البرونز أبرزها الحصان، يغلب على فن النحت اليمني القديم شيء من البدائية والغلظة، فنجد في أشكال البشر المنحوتة عامة أن الجسم في وضعية المواجهة(امامية) بينما القدمان في وضع جانبي، كما أن الوجوه ضعيفة الأداء وتعبّر عن موقع ومكانة الأشخاص باختلاف الحجوم، كما هي الحال في منحتوتات من العراق القديم، ولم يستطع فنانوا اليمن من التغلب على موضع الابعاد، فاكتفوا بترتيب الأشياء بعضها فوق البعض الآخر، أو وضعها بازاء بعضها. إلا أننا مع هذا نشاهد أن الفنان اليمني كان أكثر توفيقاً وأكثر إبداعاً في نحته، لأشكال الحيونات والإزهار والاكاليل والرسوم الهندسية، كمنحوتة الجمل البالغة الروعة مثلاً التي هي في المتحف البريطاني حالياً. وأبدعوا كثير في إنتاج قطع فنية صغيرة تغنى الكتاب اليونان والرومان بروعتها وجمالها كالكؤوس ولأوعية التي عملها السبئيون من الذهب والفضة. كما عمل اليمنيون دبابيس وفصوصاً واختاماً من البرونز عليها مواضيع لمعارك بين آلهة وحيوانات مفترسة تذكر باختام العراق القديم الإسطوانية بمواضيعها العقائدية والرمزية.
وتفنن صناع الحلي اليمنيون بإنتاج قطع جميلة من الحلي الذهبية بالغة القيمة التاريخية والفنية. وضربت النقود من الذهب والفضة اقتداءً بالعالم اليوناني آنذاك. وتشمل النقوش(الكتابات) العربية الجنوبية طائفة كبيرة من أسماء الآلهة والقابها، مما يؤكد وجود نظام للآلهة بالغ التعقيد في معتقدات اليمنيين القدامى. فقد كانت الآلهة الرئيسة للبلاد تتمثل بثالوث كوني، كما كانت الحال عليه في معتقدات العراق القديم، وهو مؤلف من آلهة نجمة الصباع والقمر والشمس وكانت بقية الآلهة على كثرتها مظاهر ثانوية لهذا الثالوث، وإله نجمة الصباح اليمني معروف في الشرق الأدنى القديم بهيئة مؤنثة فهو عشتار لدى الأكديين والبابلين، والآشوريين وعشتروت عند الكنعانيين،إلا أنه الإله الذكر عشتر عند أهل الجنوب العربي. أما إلها القمروالشمس فلهما أسماء مختلفة: فاله القمر أسمه ود عند المعينيين والمقه عند السبئيين، وهو الإله عم عند قتبان، وسن، كما في بلاد الرافدين في حضر موت. أما إله الشمس، وهو إله مؤنث لدى اليمنيين، فيدعى شمس أو شمس في قتبان وحضرموت إلى جانب أسماء أخرى، كما كانت عليه الحال في العراق القديم. وإلى جانب هذه الإلهة المشتركة كانت هناك طائفة من الإلهة الخاصة تحمي بعض الأماكن أو القبائل والآسر، ويشار إليها غالباً باسم بعل، كما هي عليه الحال لدى الكنعانيين في بلاد الشام، ومعناه الصاحب أو السيد. وبين آلهة العرب الجنوبيين عدد من الإلهة لا أسماء لها يبتهل إليها فرادى أو جماعات باسم إلهه مكان أو جماعة أو شعب، كما أن هناك عدداً من أسماء الأعلام تدخل في تركيبها أسماء إلهية اعتاد عرب الجنوب اطلاقها على الآلهة في ابتهالاتهم، من أشهرها: الأب والرَّب والملك العزيز والعادل الأمين.
وكانت جميع منجزات اليمنيين العمرانية والقانونية كالمعابد والسدود والقنوات وانصاب المدافن والمسلات توضع في رعاية الآلهة، ومن ينتهك حرمتها أو يعبث بها أو يدنسها، فستقع عليه لعنة الآلهة وغضبها وانتقامها. كما كانت للمعابد وللقائمين عليها من كهنة ومسؤولين مكانة بارزة ومهمة. فخصصت لهم العشور كما رتبت لهم مصادر لدخل ثابت لتوفير الأموال اللازمة لتعهد المعابد وادامتها.وآمن سكان اليمن القدماء بحياة ثابتة بعد الموت فزودوا مدافن وقبور موتاهم بالعديد من الحلي والكؤوس والاختام وغيرها من لوازم مختلفة يحتاجها المتوفي في حياته الثانية تلك.
كتب العرب الجنوبيون بأبجدية مؤلفة من 29 حرفاص على غرار حروف الابجدية العربية الشمالية وسابقتها الكنعانية، وتُقرأ نصوص كتاباتهم من اليسار إلى اليمن، خاصة القديمة منها المدَّونة قبل القرن السابع قبل الميلاد، على غرار الكتابات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية وتمتاز حروف الابجدية اليمنية في مراحلها الأولى باستقامتها وبخلوها من الحركات إلا ما ندر.غير أنها أخذت تميل بمرور الزمن إلى الانحناء، والخاصية الأخيرة صارت دليلاً مفيداً لقارئ النصوص اليمنية للتمييز بين تلك النصوص وأزمانها، تعرف الكتابات العربية الجنوبية بين الدراسين بمصطلح النقوش وذلك لمظهرها الزخرفي والجمالي. كما يطلق عليها اسم الخط المسند أيضاً. وغالبية النصوص المكتشفة في انحاء اليمن لحد الآن كتابات قصيرة نذرية وتذكارية من بينها أعداد كثيرة من نقوش المدافن وبعض النقوش التي تصف عمليات البناء والتشييد للمعابد والقصور والسدود. أما النصوص الطويلة أو الكتابات التاريخية فقليلة بين ما اكتشف لحد الآن من هذه النقوش. مع هذا فإن للنصوص المكتشفة والمقروءة منها إلى الآن فائدة عظيمة لتاريخ اليمن وحضارته. إذ انها قد القت الكثير من الضوء على معتقدات اليمنيين القديمة وآلهتهم بجانب الطقوس والمراسم المرافقة لتلك المعتقدات وقد جاءتنا من بين تلك النصوص قوائم كاملة باسماء ملوك دول اليمن القديمة وجوانب من النظم الإدارية وشكل الحكم وبعض النشاطات السياسية والعسكرية.
تكلم سكنة اليمن القدماء، وعرب الجنوب بشكل عام لغة تصل بنسبها واصلها بمجموعة لغات الجزيرة العربية وبلاد الرافدين وبلاد الشام. وكان يطلق عليها قديما المصطلح التوارتي مجموعة اللغات السامية. ولغة أهل اليمن القدماء كثيرة الشبه بشقيقتها الأكدية، لغة العراق القديم التالية للغة السومرية والتي تفرعت عنها البابلية والآشورية، كما لا تبعد كثيرا ًعن اللغة العربية الشمالية، لغة القرآن الكريم. وبسبب العديد من الخصائص المكانية والزمانية، تفرعت عن اللغة العربية الجنوبية أربع لهجات محلية رئيسية نسبت إلى الممالك اليمينة الأربع البازرة: سبأ ومعين وقتبان وحضر موت. وقد احتفظت بعض مناطق اليمن إلى اليوم بلهجة أو أكثر من تلك اللهجات القديمة وخاصة في مناطق المهرة وشحرى وجزيرة سوقطرة. ولكي يقف القارئ على نموذج من الكتابات(النقوش) العربية الجنوبية من الخط المسند وطبيعتها نقدم ادناه أحد أمثلتها البارزة بلغته الأصلية منقولاً إلى العربية الفصحى الحالية. والنص يمثل صورة من الأدب الديني اليمني القديم موجهاً إلى إلهة الشمس(مؤنث) وهي في الوقت نفسه إلهة المطر، منقوشاً على صخرة عثر عليها الدكتور يوسف محمد عبد الله أحد الآثاريين اليمنيين المعروفين والمتخصصين بعلم النقوش(الكتابات) اليمنية القديمة، في عام 1977، في أحد استطلاعاته الآثارية في وادي قانية بناحية السوادية في محافظة البيضاء وعُرف في النشريات اليمنية بعدئد بنقش ضاحية الجذمة، وضاحة بمعنى مرتفع بلهجة أهل اليمن. وقد استغرقت دراسة النص ومحاولة التوصل إلى قرائه صحيحة بسبب عدم وضوح بعض أقسامه وتهشم البعض الآخر وغرابته، أكثر من عشر سنوات ولعله يرجع إلى القرون الثلاثة الأولى للميلاد.وفيما يلي النص منقولاً بلغة أهل اليمن القديمة. وقد أطلق عليه مكتشفه وقارئه في نقش القصيدة الحميرية، أو ترنمية الشمس:
نشرن خير كمهذ هقحك بصيد خنون
مأث نحك وقرنو شعب ذقــــــــــــد
قسحك ولب علهن ذيحر فقحــــــك
وعيلت أأدب صلع فذحــــــــــــــك
وعين مشفر هنجر وصــــــــــحك
ومن ضرم وتدا هسلحــــــــــــــك
ومهسع يخن أحجين كشحــــــــك
ونوى تغض ذكن ربجـــــــــــــك
وصرف الغذ دام ذو ضحـــــــــك
وجهنللت هنصنق فتحـــــــــــــك
وذي تصخب هحسمك برحـــــــك
وين مزركن كشقحــــــــــــــــــك
ورسل لثم ورم فسحــــــــــــــــك
وسن صحيح دام هصححـــــــــك
وكل يرسس عرب فشحــــــــــك
وكل أخوت ذقد هقبصحـــــــــــك
ولليث شظم دام تصحــــــــــــــك
وكل عدو عبرت توحــــــــــــــك
وكل هنحظي املك ربحــــــــــــك
واك ذتعكرار اكفقجحــــــــــــــك
ومن شعيب عران هلجحــــــــك
وجب يذكر كلن ميحــــــــــــــك
حمدن خير عسيك توحــــــــــك
هنشمك هندام واك صلحــــــــك
هو أكن شمس واك تنصحـــــك
تبهل عد ايس مشعــــــــــــــك
ومعنى القصيدة بالعربية الحالية كما يلي:
نستنجد بك يا خير، فكل ما يحدث هو مما صنعت
بموسم صيد خنوان مائة اضحية سفحت
ورأس قبيلة ذي قسد رفعت
وصدر علهان ذي بحير شرحت
والفقراء في المأدب خبزاً اطعمت
والعين من أعلى الوادي اجريت
وفي الحرب والشدة قويت
ومن يحكم بالباطل محقت
وغدير تفيض لما نقص زيدت
ولبان العز دائماً ما بيضت
وسحر اللآت أن اشتد ظلامة يلجت
ومن يجأر ذاكراً بنعمك رزقت
والكرم صار خمراً لما أن سطعت
وللابل المراعي الوافرة وسعت
والشرع القويم صحيحاً ابقيت
وكل من يحفظ العهد أسعدت
وكل احلاف ذي قد ابرمت
والليالي الغدر بالاصباح جليت
وكل من اعتدى علينا أهلكت
وكل من يطلب الحظ مالا كسبت
ورضي من تعثر حظه بما قسمت
وفي الشعب الخصيب أزجيت
وبئر يذكر حتى الجمام ملأت
الحمد يا خير حتى الجمام ملأت
الحمد يا خير على نعماك قدرت
وعدك الذي وعدت بت اصلحت
أغنيتنا يا شمس أن أنت امطرت
نتضرع إليك فحتى بالناس ضحيت.
المصدر: العراق في التاريخ
خليك معنا