ضربة حظ، لقيتني أتجول فجأة في شوارع مدينة الإسكندرية الفاتنة، وأقول للرايح وللجاي: «إزيَّكْ». وبواب العمارة وسائق التاكسي واللي يعمر الشيشة في البوفية كلهم يقولوا لي: «أهلاً يا بيه»، و«اتفضل يا باشا»، بعدما كنت ما أسمع إلا: «وخَّر يا جني»، و«اطلع يا هيلوكس».
ومن زنقة الظهيرة حيث البرطعة اليومية وراء رقبة اقرحها لزوم الغداء وربطة قات صوطي، إلى زنقة السِتات في المنشية حيث الزحام منعشا وعيونك طول الوقت مبهررات في أرداف الجميلات والقبيحات والعجائز معاً. وكنت أيامها عادنا خريج طري من جامعة صنعاء، وفي الإسكندرية طبعاً ـ خلال 45 يوم – تعلمت حاجات كثيرة، وصادقت شباباً كثر. سألني أحدهم مرة واحنا جالسين العصر في البوفية نشرب شاهي وشيشة:
– إنت جاي سياحة؟
– لأ. رديت عليه بحزم، وسألني فيسع:
– أكيد جاي تتعالج، أوتدرس، صح؟
قلت له: لا.
وساع الذي شاف في وجهي الشاحط ملامح أبهة وفخفخة، قلي:
أكيد جاي تستثمر!
مشو داري إننا مرطوع من ساعتين جنبه في البوفية مراعي لخالي، اللي كان يدرس هناك، لما يجي يحاسب حق القهوة والشيشة ويروحني.
في الإسكندرية ابتعد الذحل من وجهي بصراحة، وأصبح عندي أصدقاء غير مهيوب وفارع وبجاش وهزاع وعُبده ومكرد، وشعرت لأول مرة بمتعة أن تنادي يا رمضان ويا شريف ويا بيتر ويا بطرس. وأما النسوان فقول وصيح بأسمائهن ملان الشارع، محد يقلك من أنت. وكنت إلى ما قبل ذلك لم أزل أصيح لأمي إذا صادفتها في الشارع: يييييه يا احمد، على اسم أخوها، يا زعم مشتي أحد يعرف إسم أمي خوفاً على طبقة الأوزون لا تختزق!
والمهم، رمضان ورفعت وأنا عموماً صرنا أصحاب قوي قوي. وحضرت معهم لمرات جلسات «بانجو» لم يبق منها في ذاكرتي غير رائحة الدخان والخورة لا عاد باقي منه.
رمضان ورفعت يومها واحنا في البوفية نفسها كلموني عن الحشيش وكلمتهم عن القات البلدي والقَطَل!
حدثوني عن النيل والسد العالي، وحدثتهم عن سد مأرب وبركة «الممعوص».
حدثوني عن أهرامات الجيزة، وحدثتهم عن مطاعم العزعزي للعصيد.
حدثوني عن القناطر الخيرية، وحدثتهم عن المعابر والبنادق المطعفرية!
حدثوني عن صعيد مِصر وحدثتهم عن عصيد القبيلة في اليمن!
كلموني عن أم كلثوم وكلمتهم عن أم الصبيان في اليمن!
حدثوني عن أبي الهول وكلمتهم عن أبو دبة وبنت الصحن وإبن هادي.
إيش يعني؟ كُلنا أصحاب حضارة… وما فيش حد احسن من حد.
المهم كانوا يغيظوني وهم يفتخروا ببلادهم، وانا كنت مفكود، بالذات وهم يفتخروا برموز مصر من عبد الناصر إلى فرعون، واحنا معانا رموز ملان بس محد يعرفهم، وما لقيت لحظتها غير أن أخرط عليهم، والخرط في مثل هذه الحالات مهمة وطنية.
قال رمضان معاهم شعراء فلان وفلان، قلت له واحنا في اليمن معانا شعراء ملان أولهم نزار قباني. أيوه نزار قباني أصله يعود إلى مقبنة.
وتعرف وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر؟ قال آه، وهذا أصله يمني من بيت بيكر في بني مطر إحدى قرى العاصمة صنعاء.
غير أن الكارثة بدأت لما سألني رمضان الله يقلعه:
– إنت درست إيه؟
أجبته سريعاً وبثقة: إذاعة وتلفزيون.
رديت عليه بسرعة وانا فرحان، وما كملتش هداري إلا وسألني وهو يضحك:
ـ هو انتو عندكو تلفزيون من أصله عشان دارس تلفزيون؟
أيامها كنا في سنة 1998، وعاد الفضائية اليمنية ما توصل إلى صعدة، وحسيت بإحراج وانا اشوف القنوات المصرية ملان، ورحت أحلف له يمين ويسار بأن لدينا تلفزيون المبنى حقه فُوق جبل، وبأن عندنا فضائية يمنية وقناة ثانية أيضاً، طيلة اليوم وهُن يدشنين ويفتتحين مشاريع، يودعين ويستقبلين في المطار. والمهم أقنعته بأن معانا قناة فضائية، وقالوا يله ندورها بين القنوات وعليك يا باري عليك.
كنا في نفس القهوة في زقاق كامب شيزر، وكانت الساعة حينها تجاوزت 12 الليل.
رمضان مسك الريموت يقلب، يدوروا القناة الفضائية اليمنية، وبدأ يقلب القنوات واحدة بعد أخرى.
ظهرت صورة فايزة أحمد وهي تغني من قناة البحرين. وصاحوا: أهُم أهُم أهُم… المصريين أهُم.
قلب القناة اللي بعدها، طلعت بعدها قناة السودان، ومسرحية «شاهد ماشافش حاجة»، وصاحوا: أهُم أهُم أهُم… المصريين أهُم. وانا بينهم اتوقلل مراعي تطلع قناة اليمن.
وبضغطات زر أخرى نطت لنا القناة المصرية الأولى والثانية وأهم أهم أهم… المهم قلبوا يجي خمسة عشر قناة، وفجأة طلع المذيع، محمد كريشان، من قناة «الجزيرة» يقرأ خبراً عاجلاً قال فيه إن «مجموعة مسلحة في اليمن اختطفت ثلاثة سياح أجانب من أحد شوارع العاصمة صنعاء».
وما كان مني لحظتها إلا أن أبترع مخنوقاً من شدة القهر وأهتف:
أهُم أهُم أهُم
أصحاب البلاد أهُم…
أهُم أهُم أهُم
الله ينتقمهم؟