الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
لا يمكن حصر أسباب الهجرات من جنوب الجزيرة العربية نحو الشمال بسبب واحد بعينه، فعلاقة السكان في شبه الجزيرة العربية مع نظرائهم في العراق وبلاد الشام كانت طويلة على مرّ الأزمنة، وهذا ما جعل تلك المناطق الوجهة الرئيسية للهجرات على امتداد التاريخ.
إن أبسط هذه الهجرات تكون محدودة وموسمية، ومنها تلك التي تخص بعض الرعاة في فصلي الربيع والصيف باتجاه بلاد الشام والعراق بحثاً عن المراعي، ليعودوا بعد ذلك الى موطنهم الاصلي بعد انقضاء حاجتهم، لكن الظروف السياسية أعاقت في كثير من الأحيان هذا النوع من الهجرة الموسمية.
أشهر الهجرات من الجزيرة العربية نحو الشمال:
- هجرة الأكاديين باتجاه العراق وقد حدثت حوالي عام 3500 قبل الميلاد، وقد تمكنوا من بناء الدولة الأكادية التي وحدت العراق في عهد الملك سرجون الأول.
- الهجرة التي حدثت في حوالي عام 2200 قبل الميلاد والتي هاجر فيها الفينيقيين والكنعانيين الى بلاد الشام، بينما هاجر العموريون الى العراق في الفترة ذاتها.
- هجرة الآراميين باتجاه بلاد الشام والعراق حوالي عام 1500 قبل الميلاد وهي نفس الفترة التي هاجر فيها العبرانيين باتجاه فلسطين.
- هجرة التدمريين والأنباط قبل الميلاد بخمسمائة عام من الميلاد تقريباً.
- الهجرة الإسلامية التي حدثت بعد الفتح الإسلامي وبالخصوص في بداياته، وقد كانت العراق وبلاد الشام الوجهة الرئيسية للمهاجرين، وهذا ما ساهم في اعتناق شعوب هذه المناطق للدين الإسلامي الحنيف، كما ساعد على تكريس استعراب سكانها.
ولكن ما هي أهم النظريات التي تحدثت عن أسباب الهجرات من الجزيرة العربية نحو الشمال، هذا ما سنحاول إلقاء الضوء عليه وطرحه لحضراتكم من خلال كلماتنا التالية.
أسباب الهجرات من الجزيرة العربية نحو الشمال:
يعتقد كثير من الباحثين أن الجزيرة العربية هي مهد الجنس السامي، وبأنها لم تكن تستطيع استيعاب العدد الكبير من السكان الذي يزيد عن طاقة استيعابها، فما كان من هؤلاء السكان إلا التوجه الى المناطق الخصبة التي تقع في الشمال.
إن أهم الأسباب التي جعلت الجزيرة العربية لا تستوعب عدداً كبيراً من السكان هو التغير الذي طرأ على مناخها وأراضيها، فبعد أن كانت بعصر “البلايستوسين” تحتوي على أراض خصبة جداً وتهطل فيها الأمطار بغزارة؛ انحبست الأمطار في عصر “نيولتيك” وشاع الجفاف، مما أثر سلباً على خصوبة أراضيها التي تحولت قشرتها تدريجياً الى رمال وصحاري تصعب الحياة فيها، مما دفع الكثير من سكانها الى الهجرة منها باتجاه الشمال.
ويعود السبب الرئيسي في اختيار أهالي الجزيرة العربية مناطق الشمال للهجرة اليها، أنها متصلة جغرافيا ببلادهم، وأن أساسيات الحياة كانت متوافرة فيها بشكل أكبر، حيث تحتوي على الكثير من الأراضي الخصبة والخيّرة.
نظرية العالم الإيطالي كيتاني (12 سبتمبر 1869-25 ديسمبر 1935):
قام المؤرخ وعالم الدراسات الإسلامية الإيطالي “كيتاني” بتقسيم شبه الجزيرة العربية إلى قسمين أحدهما شرقي وغربي، بحيث اعتبر أن القسم الغربي هو المناطق القريبة من الساحل الشرقي للبحر الأحمر بما فيه من مرتفعات وسلاسل جبلية.
أما القسم الشرقي؛ فيبدأ من سفوح هذه الجبال من الجهة الشرقية وصولاً الى شواطئ الخليج العربي من الجهة الغربية، وذلك بحسب ما ذكره المؤرخ العراقي الشهير جواد علي، الذي يعتبره كثيرون أبرز مؤرخ عربي خلال القرن العشرين.
أكدت الدراسات التي قام بها كيتاني بأن القسم الغربي كان له سلطة كبيرة على ذلك، وبأن سكانه كانوا على مستوى عالٍ من المدنية في نفس الوقت الذي عانى فيه سكان القسم الشرقي من الفقر، ولأن تأثير الجفاف على المناطق الشرقية كان أسرع من نظيراتها الغربية، فقد بدأت الهجرات منها باتجاه الشمال قبل المناطق الغربية.
لكن امتداد الجفاف لاحقاً الى القسم الغربي وتغير المناخ فيه أدى الى تصحر الكثير من أراضيه، وهذا ما دفع سكان هذه المناطق كذلك الى الهجرة منها باتجاه مناطق أخرى وبالخصوص بلاد الشام وباقي مناطق الشمال.
كما أن العالم كيتاني ومعه الكثير من المستشرقين يزعمون أن الفتح الإسلامي كان الهجرة السامية الأخيرة التي دفعت عدد كبير من سكان شبه الجزيرة العربية للهجرة باتجاه الشمال، وبأن دافع هذه الهجرة كان الجوع والجفاف كذلك.
نظرية المستشرق الويس موسل (30 يونيو، 1868 – 12 أبريل، 1944):
على الرغم من الرواج الكبير الذي لاقته نظرية العالم كيتاني واعتبارها من أهم النظريات في التأريخ العربي لمنطقة شبه الجزيرة العربية؛ لكنها واجهت بعض الأصوات المعترضة.
وأبرز المعترضين على النظرية التي أطلقها كيتاني؛ كان مستشرق الإمبراطورية النمساوية المجرية “موسل” الذي رأى أنها غير مستندة لأدلة علمية أو أسس تاريخية.
يعتقد موسل أن أسباب الهجرات من الجزيرة العربية نحو الشمال تعود بشكل أساسي إلى سببين هما: تحول طرق التجارة وضعف الحكومات المركزية، مما جعل رؤساء القبائل ينشقون عنها ويتزعمون المنطقة، مع ما أدى إليه هذا الأمر من اضطرابات ونشوب الفتن والحروب.
وقد أكد موسل بأن هذه الأمور صرفت الشعب والحكومة عن أعمالهم الزراعية والعمرانية، وأدت لتوقف الأعمال التجارية، فحصل الكساد وانتشرت المجاعة والأمراض، ما دفع الناس الى الهجرة والبحث عن مواطن أخرى تقيهم وأهلهم خطر الحروب كما يجدون فيها ما يسدون به رمق الحياة.
انهيار سد مأرب:
وقد ضرب هذا المستشرق مثلاً يؤيد فيه نظريته، فقال: إن خراب “سد مأرب” لم يكن سببه الجفاف وإنما ضعف الحكومة اليمنية، مما أدى لتزعم “الأذواء” و”الأقبال” للمنطقة وساعد ملوك الفرس والحبشة على التدخل في شؤونها، فحدثت الثورات واشتعلت الحروب التي ألهت الحكومة اليمنية عن إصلاح وترميم السد المتصدعة جوانبه، فانهار سد مأرب وأدى لخسارة مناطق زراعية واسعة.
وبعد انهياره؛ لم تجد القبائل التي تقطن في تلك المنطقة سبيلاً سوى الهجرة الى مناطق أخرى والبحث عن مواطن جديدة.
لم يتوقف اعتراض موسل على نظرية كيتاني عند هذا الحد، فقد رفض فكرة أن الهجرة التي حصلت بعد الفتح الإسلامي كانت بسبب الجوع والفقر، واستشهد على اعتقاده بأن الجيوش العربية التي فتحت بلاد الشام والعراق لم تكن من سكان الجزيرة العربية فقط، بل أن الكثير من القبائل الشامية والعراقية والنصرانية وقفت إلى جانب أبناء جلدتها العرب في محاربتهم للفرس والروم.
لا يوجد سبب مؤكد:
وبذلك نجد أن أسباب الهجرات العربية نحو الشمال لم يتم حسمها بشكل مؤكد، وهي بحاجة للمزيد من الدراسات والى انتظار علماء باقي العلوم وأهمها الجيولوجيا كي يقولوا كلمتهم في موضوع التغير الذي أصاب المناخ وطبيعة الأرض.
ولكن ما يمكننا تأكيده أن هذه الهجرات أحدثت تأثيراً كبيراً على أصحابها الذين ترك معظمهم حياة البداوة واستقروا تدريجياً في بلاد الشام والعراق واختلطوا مع سكانها، وقد أدى ذلك لاختلاط حضارتهم وثقافاتهم مع حضارة وثقافة شعوب تلك المناطق، فظهرت كنتاج لهذا الخليط مدنيات جديدة لها طابع مميز، حيث تؤكد الوقائع أن أزهى العصور التي عاشها سكان الشمال، هي تلك التي أعقبت الهجرات الواسعة اليها.
المصدر: ملتقى المؤرخين اليمنيين
خليك معنا