الصباح اليمني_مساحة حرة|
دخلت الولايات المتحدة الأميركية السنتين الأخيرتين قبل انتهاء ولاية رئيسها جو بايدن؛ سنتين أخيرتين تكملهما الإدارة الحالية الديمقراطية بمشيةٍ عرجاء بعد فوز الحزب الجمهوري بأغلبية مجلس النواب وحصد منصب رئيسه.
حتى الآن، هذه معطياتٌ عادية تتكرر في أميركا. انتخابات تليها انتخابات، وتناوبٌ بين الحزبين على السلطة وعلى حصد الأغلبيات في مجلسي الشيوخ والنواب وحكام الولايات، وتنافس على غزو الإدارة بالموظفين الكبار… هي عدة العمل اللازمة لكل رئيسٍ جديد في نظامٍ يعطي الرئيس صلاحياتٍ واسعة في تكوين فريق عمله الموسع، لكن غير العادي هو الظروف التي يمر بها العالم، وموقف الولايات المتحدة الداخلي والخارجي، وما تواجهه من تحدياتٍ كبرى هذه الأيام.
في الداخل، يشتدّ الصراع بين الحزبين مع مرور الوقت. جلسة مجلس النواب التي تلا فيها بايدن خطاب الاتحاد قبل أيام كانت مؤشراً صارخاً على ذلك. مشادات حادة وتهكّم وسخرية من الرئيس ووقوف النواب لبعضهم كالديوك المتصارعة في ديمقراطيةٍ لا تبدو كما كانت على الدوام. متغيرات كثيرة طرأت وجلبت معها هواجس ومشاهد لم تكن مألوفة في تاريخ السياسة الأميركية. صورة اقتحام الكابيتول كانت إحدى تلك المشاهد الداخلية الصادمة. وفي المشاهد الخارجية، لا شيء ينازع صورة الأفغان المتدلين من الطائرة الأميركية المبتعدة بعد 20 عاماً.
في أميركا، يقولون إن البلاد لن تعود كما كانت أبداً؛ إما تنتصر في حربها العالمية غير الصريحة حتى الآن، فتعيد تثبيت سطوتها على العالم كما فعلت بعد القنبلتين، وإما تخسر، فتفقد احتكارها لقيادة النظام العالمي.
وفي الخارج، تقود الولايات المتحدة التحالف الغربي ضد روسيا في أوكرانيا. وقد حصدت من هذه القيادة مكاسب واضحة في السنة الأولى منها، لكن تفاعلات هذه الأزمة وطول أمدها ينقلبان مع الوقت إلى عكس بدايتها.
في مطلعها، تحول الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي إلى اعتماد على صادرات الطاقة الأميركية بأسعارٍ مضاعفة، إلى جانب مكسب إستراتيجي فائق الأهمية تمثل بقطع مسار تطور العلاقات الروسية الأوروبية عموماً، والألمانية الروسية على وجه التخصيص. اصطفت أوروبا راضيةً أو مكرهةً بانضباط مرضٍ خلف إرادة واشنطن، وراحت تسبح عكس تيار مصالحها الاقتصادية، من أجل استقرارها الإستراتيجي والأمني بالدرجة الأولى.
تحوَّلت دينامية الصراع منذ الخريف الفائت لتنهي الصيف المتفائل لدى حكومة كييف وحلفائها. ومع دخول الشتاء، بدأ الوقت يلعب لمصحلة موسكو، بالتوازي مع تغير الأغلبية النيابية في الكونغرس.
ومع تقدّم القوات الروسية على الأرض، وهو أمر مستمر حتى الآن، بدأ الوقت بالضغط على إدارة بايدن لقطع هذه الدينامية من دون أثمان باهظة تلوح في الأفق في ما لو طال الوقت كثيراً. سارع الأميركيون إلى إجبار الحلفاء على توريد دباباتهم الثقيلة إلى أوكرانيا، وتم تحفيزهم على إرسال كل وسائل القتال الممكنة، من دون حد الصدام المباشر بين الناتو وروسيا، فبدأت المزايدات والتدافع إلى الأمام وإلى الخلف، بالترافق مع جس نبض روسيا والحد الذي يمكن أن تقبل به من هذا التسليح النوعي، وتوسعت عيون الحلفاء على ما يعطيه كلٌ منهم للأوكرانيين، في الوقت الذي رفعت موسكو رهاناتها ونبرتها في مواجهتهم، مركزةً على ألمانيا في الدرجة الأولى.
هذه التطورات وفرضية استعجال واشنطن إيقاف التقدم الروسي، تدعمهما معطيات عديدة قيد التشكل سوف تقود إلى تطوراتٍ أخرى، منها ما أشرنا إليه من ظروف الميدان واحتمالاته المنقلبة، ومنها ما جلبته الارتدادات الاقتصادية المرتبطة بالحرب من جهة، وتفاعلات الاقتصاد العالمي ودور اللاعبين الرئيسيين فيه من جهةٍ أخرى.
عين أخرى على الصين
وفيما التركيز ينصبّ على أداء موسكو في الميادين المتنوعة لهذا الصراع، لم تكفّ الولايات المتحدة عن متابعة الصين. هذا التركيز على الشرق الآسيوي مستمر منذ سنوات، لكنّه زاد ليبلغ ذروة جديدة خلال الحرب الأوكرانية.
الصين مهمة هنا لأسباب عديدة، تبدأ من أولوية إبقائها بعيدةً من الانخراط المباشر في دعم روسيا، وتقليص هذا الدعم المتنوع إلى حده الأدنى من خلال التلويح بالعقوبات وفتح الصراع معها، ولا تنتهي بالتصويب على علاقاتها الاقتصادية مع العالم وأداء اقتصادها وما يستتبعه ذلك من مخاطر على التفوق الأميركي.
لم يوفّر الأميركيون فرصةً لإبعاد آثار التعاون الصيني الروسي عن مآلات الحرب الأوكرانية؛ فحفلة العقوبات الأولى وحزماتها المتتالية كانت للاستفراد بموسكو والتكتل ضدها في أوكرانيا، وهي أبرز قوة عسكرية من بين مناهضي الهيمنة الأميركية على النظام الدولي. وإذا هزمت في حرب هجينة وطاحنة كالحرب الأوكرانية، فسيكون أكثر يسراً أخذ القوى الأخرى فرادى تالياً.
لم تتفاعل هذه المعطيات كما كانت تفضل واشنطن. بعضها حدث وعاد بفوائد، لكن العرض متواصل، والمسار بدأ يتحول إلى اتجاهٍ مختلف. ماذا لو هزمت كييف؟ احتمالٌ آخر، ماذا لو استمر التقدم الروسي الذي يبدو أنه يأخذ بالحسبان التداعيات الاقتصادية والإستراتيجية على التحالف المقابل؟
بمعنى أدقّ، ماذا ستفعل الولايات المتحدة تحديداً مع استمرار الحرب الأوكرانية وتقدم الروس مدينةً تلو أخرى واستكمال السيطرة على المناطق الأربع التي ضمتها نحو أوديسا وخاركوف وكييف؟ ماذا لو حدث ذلك ببطءٍ وعناية إلى الحد الذي يمنع أو يؤخر المواجهة مع الصين؟
لا بد إذاً من إطلاق سوق العروض. بدأ ذلك في الشهر الأول من العام الحالي. حين تمّ ضخ عرض أول في قناةٍ خلفيةٍ لجس النبض، قيل إنَّ روسيا قلبت الورقة، ولم تشترِ العرض. تم التصعيد مجدداً في اجتماع رامشتاين، وأرسلت الدبابات إلى كييف، لكن التطورات اللاحقة في الميدان كانت لمصلحة موسكو، ما زاد صعوبة الموقف.
الوقت يمضي، وبكين تواصل تقليص استثماراتها في السندات الأميركية، وتذهب بعيداً مع روسيا والهند والسعودية ومصر وإيران وغيرها، وتتبادل بالعملات المحلية. روسيا تبيع الطاقة بالروبل، والصين تبيع المنتجات باليوان، وهما تتبادلان فيما بينهما بالعملات المحلية.
وفي مسارٍ موازٍ، يستمر تدفق مصادر الطاقة الروسية في كل اتجاه، إما مباشرةً وإما عبر أطراف ثالثة. إنه مساس بإحدى أبرز ركائز القيادة الأميركية للنظام الدولي، وخصوصاً أن التصريحات والخطوات الغربية حول تجميد الأصول الروسية وتحويلها إلى أوكرانيا فاقمت أزمة الثقة بين الصين والغرب، وساهمت في تسريع الانسحاب التدريجي من الاستثمار في الدين الأميركي، وفي الأسواق المالية الأميركية، وهو نمطٌ بدأته الصين منذ سنوات، لكنه الآن يتسارع ويسابق الوقت، تماماً مثلما تسابق واشنطن الوقت لتوقف الصين قبل وصولها إلى نقطة اللاعودة.
ومع وجود كلّ هذه الأموال لدى بكين، وشحّها لدى معظم دول العالم، وسوء أثر المزيد من التسهيل الكمي لمكافحة الركود الاقتصادي الناجم عن التضخم، والأكثر سوءاً على التضخم نفسه، ستكون للصين الأفضلية في منافسة واشنطن على مستوى التجارة العالمية.
في أفريقيا، تخوض بكين وموسكو زخماً واسعاً باعتماد وسائل متنوعة؛ من توفير القروض والفوائد الاقتصادية الكبرى، والحماية الأمنية (حالة روسيا في دول غرب أفريقيا الناطقة بالفرنسية)، والعودة بمواد أولية وعلاقات أكثر قوة مع تلك الدول، وإبعاد الدول الغربية الواحدة تلو الأخرى من أرض الثروات والمواد الأولية والفرص المستقبلية.
وعلى المستوى الداخلي، بحلول عام 2027 لن تكون الصين بالدرجة نفسها من الحاجة إلى الأسواق العالمية التي تحاول واشنطن إغلاقها أمامها، بل سيكون نموها معتمداً على السوق الداخلية بصورةٍ رئيسة، إلى جانب انعتاقها من التبعية التكنولوجية للغرب، مع إتمام إستراتيجيتها الخمسية للسيادة التكنولوجية.
هذه تحولات أكثر منها تطورات تراكمية، وسيكون من الصعب إيقاف الصين بعد ذلك. ولذلك، فإن المعركة يجب أن تنطلق باكراً وفق تقديرات واشنطن، لكن استمرار الحرب الأوكرانية بالبطء الذي أشرنا إليه، والتفاعلات المصاحبة لها، يعقدان ذلك.
لن تتمكَّن واشنطن من فتح حربين في آنٍ واحد، ومع قوتين كروسيا والصين. سيكون ذلك معاكساً للنمط الأميركي بأخذ الأعداء فرادى والقتال بالحلفاء وكالةً. لا حطب لدى الحلفاء يكفي هذه النار. الناتو متأهب أمام تهديدات ميدفيديف المتكررة، وعينه على إصبع بوتين ووجهه الغامض. “أوكوس” من دون انخراطٍ أميركي لن يصمد في حربٍ من هذا النوع، والانخراط الأميركي في حربٍ شاملة يعني يوم قيامةٍ مبكر. إذاً، يجب أن تتوقف الحرب في أوكرانيا، لكن من دون نصرٍ روسي يشجع بكين ويعطي زخماً هائلاً للدول المتمردة والمتزايدة. المطلوب أيّ شيء يتم تسويقه على أنه هزيمة روسية، والانطلاق بعدها لهزيمة مماثلة للصين.
تجهيز بيئة المواجهة المقبلة
في خضم ذلك كله، تنطلق حكاية المنطاد الصيني، وتقول واشنطن إنه مرسل بغرض التجسس. الصين تسارع إلى النفي، وتؤكد أنه سلمي ويستخدم لأبحاث الطقس، وأنه خرج عن مساره، لكن حملةً إعلاميةً واسعة النطاق تحاك حوله، وتبدأ المجسمات الغريبة بغزو نشرات الأخبار في الوكالات وفي مختلف وسائل الإعلام العالمية. عودةٌ لافتةٌ إلى أجواء الأطباق الفضائية التي درجت منذ عقود. مجسماتٌ جديدة تلحظ فوق شمال الولايات المتحدة وكندا، والحديث عن التجسس الغريب يتسع.
أكثر من ذلك، ترفع الولايات المتحدة نمط الدعاية لتتحدَّث عن “برنامج مناطيد تجسسٍ صينية”، والحديث عن البرنامج يستدعي إلى الوعي السياقات الأخرى عن البرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين، ومثلهما لدى كوريا الشمالية… الأمر الذي يستدعي بحكم التجربة والذاكرة القريبة والمستمرة برامج عقوباتٍ غربية.
الصين ترد بأنها رصدت دخول مناطيد أميركية أجواءها 10 مرات منذ عام وحتى اليوم، لكنها تقول إنها لم تقم بحملةٍ دعائية وحفلة هلع على الموضوع، بل “تعاملت بطريقةٍ مسؤولةٍ ومهنية”، بحسب المتحدث باسم خارجيتها وانغ وين-بين، الذي أضاف أن بلاده رصدت خلال الأيام الفائتة -بعد حادثة منطادها الذي اعترفت به فوق أميركا- جسماً طائراً غير محدد قبالة ساحلها الشرقي، وتؤكد أنه “ليس من الغريب على واشنطن دخول أجواء البلدان الأخرى بشكلٍ غير قانوني”.
ردت واشنطن عبر المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض أندريان واتسون بأن “أي ادعاء بأن الحكومة الأميركية تستخدم مناطيد تجسس فوق جمهورية الصين الشعبية خاطئ”، وأضافت أن بكين تحاول “الحد من الأضرار”، متّهمةً إياها بـ”انتهاك سيادة الولايات المتحدة وأكثر من 40 دولة” من خلال “برنامجها لمناطيد التجسس”.
الآن، من المرجح أن يدرج استخدام هذا المصطلح الوليد: برنامج الصين لمناطيد التجسس. عنوانٌ شديد الجاذبية، ومجالٌ واسعٌ لصناعة الخوف المطلوب للتوطئة للمرحلة المقبلة التي ستتحول فيها الصين إلى فزاعةٍ عالمية. المآلات البعيدة لهذا المسار ستقود إلى طرح أصعب خيار على دول العالم: عليكم أن تكافحوا هذا الخطر الذي يشتمل على أجواء مخيفة وأطباق طائرة ومناطيد ورغبة بالتوسع والسيطرة. ومن أجل ذلك، يجب أن تضحوا باستيراد البضائع رخيصة الثمن، وتشتروا بدائلها من الدول الديمقراطية، تماماً كما استغنيتم عن الغاز الروسي الزهيد من أجل دعم الحرية في أوكرانيا.
وفي الداخل الأميركي، تآلفت تصريحات نوابٍ من الكونغرس مع المسؤولين في وزارة الدفاع والأمن القومي والبيت الأبيض، لتشير إلى الأحداث الجديدة وتكاثر الأجسام الغريبة في سماء البلاد. أجواءٌ ملائمةٌ لانسحاب بايدن من التزاماته مع شي جين بينغ، وإطلاق المزايدة خلال عامين مبتقيين من الصراع بين الحزبين على هوية الرئيس الذي سيحارب الصين.
خليك معناالمصدر: الميادين نت