الصباح اليمني_ثقافة وهوية|
نهاية القرن 18 اخترع الألماني لودڤيگ شلوتسير تسمية {لغات ساميّة} فقط لأنّه لم يقدر على تقبّل فكرة قِدم اللّغة العربيّة في عمق التاريخ، ولم يتقبّل أنّ لغات الحضارات القديمة في المشرق هي لهجات تنتمي جميعاً إلى النسخة الأحدث منها: اللّغة العربية. كذلك قام مسيحي أوروپي غيره باختراع خط وهمي يفصل شمال شبه الجزيرة العربية عن جنوبيها، لعزل “العرب” وفق المفهوم الغربي عن عواصم الحضارات القديمة، وكذلك عن مهاد الأديان القديمة، اليهودية والمسيحية، وكلّ المراد هو القول بأنّ الإسلام لا يمتّ بصلة إلى أسلافه الإبراهيميّة، وأنّ لا علاقة للعرب القدامى بالمسيحية ولا باليهودية، وبالتالي هي أديان غير عربية، سلبها العرب أرضها الأم! هذا بالضبط هو هراء الاستعلاء الأوروپي في القرن 19، والعائد بجذوره إلى القرن 11.
لا أعرف من هو مخترع هذا التعريف الجديد لشبه الجزيرة العربية، الذي يبتر عنها الشام والعراق، لكنّ أقدم ما عثرت عليه، وأكثر ما وجدته مذكوراً كمصدر في الأبحاث والمقالات، هو معجم أميركي من القرن 19 يعرّف {شبه الجزيرة العربية} بأنّها الأرض العربيّة الممتدّة ما بين خط عرض 32° شمال وخط عرض 12° شمال. وهذا يحصرها فعلاً ما بين بحر العرب وحدود المملكة الأردنية المعاصرة. لكن، كيف يكون هذا التعريف صحيحاً إذا كانت المملكة الأردنيّة كلّها حديثة الوجود، ونتيجة للاحتلال البريطاني الحديث، ولترسيم حدود ما بين مملكة هاشميّة ومملكة سعوديّة. كلتيهن ما كان لهنّ وجود قبل مئة سنة. فكيف يعمّم هذا التعريف على التاريخ كلّه! وعلى تدوينات العرب القديمة كلّها. هذا لا يجوز.
المعجم الجغرافي الأميركي ابن القرن 19 هو معجم ميريام وبستر Merriam-Webster المنشور سنة 1831، والتعريف المذكور منشور في الصفحة 61 من الإصدار الثالث للجزء العاشر، وتركته حرفاً في التعليقات. وفي المعجم يعترف كاتبه بأنّ هذا التعريف لشبه الجزيرة العربية هو تعريف حديث، وأنّ التعريف القديم يشمل المناطق الشمالية، التي تضم كلّ الأراضي ما بين نهر الفرات والبحر الأبيض المتوسّط.
في الواقع، أطلق العرب قديماً على بلادهم الأم اسم جزيرة العرب أو شبه الجزيرة العربيّة لأنّها محاطة فعلاً بالماء من كلّ حدب. ولا يوجد معبر يابس شمالاً خارج هذه الأرض سوى منطقة بعرض 140 كلم تقع اليوم جنوب تركيا ما بين نهريّ الفرات وجيحان. هذا يعني أنّ شبه الجزيرة العربيّة أو جزيرة العرب أرض تمتدّ من ديار بكر شمالاً حتّى بحر العرب جنوباً، ومن نهر دجلة شرقاً حتّى قناة السويس غرباً. وفي معجم ميريام وبستر الجغرافي يعترف المؤلّف بأنّ التعريف القديم لشبه الجزيرة العربية يشمل على شبه جزيرة سيناء في جغرافيّته.
الماء الذي يحيط بشبه الجزيرة العربية أو جزيرة العرب هو بحر العرب من الجنوب، ثمّ الخليج العربي، ثمّ نهر دجلة، ثم نهر جيحون، ثمّ البحر الأبيض المتوسّط، ثمّ البحر الأحمر. ولو قامت تركيا اليوم بحفر قناة بطول 140 كلم تربط نهر جيحون بنهر الفرات، لصارت شبه الجزيرة العربيّة جزيرة فعلاً، بوجود قناة السويس على الغرب.
في كتابه {التواريخ}، يذكر إيرودوتوس Ἡρόδοτος (هيرودت) شبه الجزيرة العربيّة كمكان أو دولة موحّدة على ما يبدو تتمتّع بالقوّة الكافية للبقاء مستقلّة عن الإمبراطوريّة الأخمينيّة، ولو أنّها في حلفها، وكان هيرودت آنذاك موظّفاً حكوميّاً في إمارة ثُوريّة Θούριοι؛ كالابريا في زمننا المعاصر. وبحسب نصوص إيرودوتوس، فإنّ {الجزيرة العربيّة} هي المساحة الجغرافية المحصورة ما بين أرمينيا (أياستان) ودجلة والخليج العربيّ وبحر العرب والبحر الأحمر والنيل مروراً بالساحل الشرقي للبحر المتوسط حتى هضبة الأناضول.
لمّا قدّمت هذا الكلام أمس نالني البعض بالسخريّة، وهذا غريب. أنا لم أكن حيّاً في القرن الخامس قبل الميلاد، ولم أقم بتلقين إيرودوتوس هذا الكلام، ولا حاضرت في ندوة حضرها بالمصادفة. إنّما الواقع أنّني نقلت كلام من يحمل لقب أبو التاريخ، مؤرّخ وجغرافي إغريقي، غير عربي، ترك لنا موسوعة باسم {إستوريّه} Ἱστορίαι من أكثر من 2500 سنة مضت، صاغت عنها العرب كلمة أسطورة، وصاغ عنها اللاتين كلمة هيستوري History.
هذا لا ينفي وجود العرب خارج هذه الحدود في زمن إيرودوتوس في القرن الخامس قبل الميلاد، غير أنّه يشير إلى مملكة أو دولة ذات كيان مستقل باسم العربيّة، محاطة بالماء من كلّ جانب. وهذه هي النقطة المهمّة هنا. انظر الخارطة. لوّنت {العربيّة} وفق إيرودوتوس باللّون الأحمر، وأشرت إلى أهمّ المدن المعاصرة التي تساعد على توضيح الحدود. ووضعت خطّاً أزرق حول المنطقة المعروفة في جغرافيا اليوم باسم شبه الجزيرة العربيّة أو جزيرة العرب.