أفرزت الأحداث الأخيرة في الخليج العربي دلائل مختلفة، جميعها تؤكد يقيناً أن قنواتها الإعلامية ومواقفها السياسية لا يمكن أن تغير من سلوكها أو تصحح من مواقفها مهما كانت الحقائق جلية، ومهما بدت مسرحيات الأحداث مكتملة الفصول.
في سنوات ما قبل الربيع العربي، كانت قناة «الجزيرة» القطرية تتلبس عباءة الإعتدال، وتتنكر بقناع المهنية والحيادية، رغم أنها منذ الوهلة الأولى لانطلاقتها كانت ولا زالت تخدم أجندة تبدو متناقضة ومختلفة في الظاهر، ومتحالفة ومتفقة في الباطن. فهي تحرص على رصد كل ما من شأنه إثارة الفتن وتأجيج الصراعات، وتجند لذلك شبكة مراسلين حول العالم، وظهر ذلك جلياً في قضايا عدة كشفت الرمال المتحركة التي تبني قناة «الجزيرة» عليها مداميكها.
لقد انخدع المشاهد العربي البسيط بفلسفة القناة البعيدة عن الجوهر الحقيقي، وتسويقها السطحي لقضايا تخفي في قعرها العكس. فهو يرى – أي المشاهد العربي – أنها القناة التي تقف إلى جانب مظلومية القضية الفلسطينية عموماً، وقطاع غزة على وجه الخصوص، وتنحاز دائماً إلى صف المقاومة اللبنانية ضد الكيان الصهيوني، لكنها في الواقع لم تتناول يوماً العلاقات القطرية الإسرائيلية، وما هو مبرر تلك العلاقات؟ وما هو سبب خصومتها لعدة دول عربية تمثل الإعتدال والعمق العربي كجمهورية مصر العربية وسوريا منذ انطلاقتها حتى الآن؟
اليوم، رغم كل التناقضات التي دأبت هذه القناة على الولوج في متاهاتها، تتظاهر مجدداً بموقف جديد ومغاير تجاه الصراع اليمني ودول العدوان المشاركة فيه، فتحاول استغلال خلافها السياسي مع الرياض وأبو ظبي لاستقطاب المشاهد اليمني الذي يوافقها مشاعر الكراهية والمقت لهذين النظامين، ويبارك خطواتها ضد أي دولة من دول العدوان، لكن ذلك لا يعني أنه راض عن القناة والوجهة التي تمثلها، والجغرافيا التي تحتضنها.
وفي هذا الاطار، لم تأل الجزيرة جهداً في شق صفين متوازيين: أولهما شق الصف الخليجي ممثلاً في السعودية والإمارات، على ضوء ما يجري في اليمن، لاسيما الساحة الجنوبية. وثانيهما شق الصف الداخلي اليمني ممثلاً بحزب «المؤتمر الشعبي العام» وجماعة «أنصار الله».
ففي تغطيتها الأخيرة للأحداث اليمنية، حاولت استعطاف اليمنيين بتعاطفها مع مظلوميتهم، ثم لعبت باحتراف في استغلال تناقض موقفي الرياض وأبو ظبي من «إخوان اليمن»، وفي الوقت ذاته عملت على تسويق تسويات للصراع اليمني تمهد لعودة نجل الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، لسدة الحكم، وتدعي مباركة الرياض وأبو ظبي لهذه التسويات. ورغم سخرية المشاهد اليمني من هشاشة هذا الطرح وإدراكه لمغزى نفث هذه السموم في هذه المرحلة، ورغم نفي حزب صالح لهذه المزاعم التي تتبناها القناة، إلا أن ذلك لا يلغي وجود خلاف بين القطبين اليمنيين، ولعل موقف كل طرف من عودة مكتب القناة إلى العاصمة صنعاء مؤشر كاف على الإستراتيجية المنفصلة لكل طرف في ما يخص المرحلة القادمة على ضوء التطورات الإقليمية.
وبالعودة إلى رصيد القناة الإعلامي منذ انطلاقتها، نجد أنها القناة الوحيدة التي كانت تعرض خطابات لزعيم تنظيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، ومن بعده الظواهري وبشكل عاجل وحصري، وهذا يؤكد وقوفها مع التنظيم في هذه الجبهة الإعلامية التي أسهمت كثيراً في تسويق فكر «القاعدة».
ونظراً لوقوف تركيا وإيران مع الدوحة في الأزمة الخليجية القطرية الحالية، غيرت دول الخليج من رؤيتها لـ«الجزيرة» القناة ومن ورائها قطر الدولة، فرأت أن قطر خادم مخلص لمصالح إيران وإسرائيل على حد سواء، وذلك بتمويلها الإرهاب وشق الصف الفلسطيني، وتوسيع الهوة بين «حماس» و«فتح» لحساب إسرائيل، وعبثها في الشأن المصري والليبي لمصلحة جماعة «الإخوان» المتطرفة، ودعمها الجماعات الإرهابية في سوريا، فصارت ملاذاً آمناً لـ«الإخوان» و«النصرة» و«داعش» و«القاعدة»، ونقطة انطلاق عمليات إرهابية في دول عربية عدة.
هذا الموقف الخليجي الجديد يضيف إيران إلى الأجندة التي تقوم القناة على خدمتها، ويستدل بمساندة القناة للمشروع الإيراني في البحرين، وتغطيتها الطويلة للانتخابات الإيرانية عوضاً عن القمة الإسلامية الأمريكية في الرياض، والحديث هنا للموقف الخليجي الأخير. يتميز المشاهد اليمني بالحصافة والنباهة، ولا يمكن أن تنطلي عليه مثل هذه الترهات التي تستهدف وعيه وتهز مواقفه ومبادئه.
كيف لا وهو من فضح القناة وهي تمارس التضليل والدجل والتزييف في مواقف وتغطيات عدة، كان أولها فضيحة نشرها مقاطع فيديو نسبتها لسجون تعذيب في اليمن إبان أحداث 2011م، وهي في الحقيقة مقاطع في سجون عراقية، وهو ما اعترفت به القناة نفسها بعد أن كشفها المشاهد اليمني المؤيد قبل المعارض؟!