علمنا التاريخ أن استمرار التوحش لا يمكنه أن يمنع تشكل التوحش المضاد. ومثلما تفرعت قضايا حرب 94 وحروب صعدة إلى حالتي تطرف شمالاً وجنوباً، فإنه من المحتم أن تفضي تداعيات الحرب التي ما تزال قائمة إلى قضايا أخرى متفرعة.
ثم مع اتباع عقلية الجلاد نفسها، ستتراكم القضايا مستقبلاً، كما ستصبح مزاعم الضحايا منكشفة وغير مقبولة. وإذا لم يتعقلن من يزعمون أنهم المتحكمون باللحظة الحالية، ليفهموا أن آثار الحروب تصبح أخطر من الحروب نفسها، سيبقى من الطبيعي أن نصل جميعاً إلى نفس المآلات الخاطئة.
أما المغفل المحض فهو من لا يقر بضرورة معالجة القضايا المعقدة التي أنتجتها الحروب السابقة، معتقداً أنه سينهيها ويتجاوزها بإنتاج حروب جديدة تفضي إلى قضايا أشد تعقيداً. كذلك ستفشلون في مواجهة المركزية عبر اقتسامكم البلاد والعباد مناطقياً ومذهبياً وطائفياً. وبما أننا كلنا نريد عدالة وحرية ومساواة، فيجب إيقاف الحرب أولاً، ما لم فإنه لا فائدة من كل تجارب التاريخ التي تعجز عن هدايتنا.
والمهم الآن أن الخسارة للجميع ولم يربح أحد. فالطائفيون لا ينهشون بعضهم فقط، وإنما ينهشون في طريقهم الأبرياء أيضاً. لا يتقنون العيش المشترك، أو فكرة الإنسجام الشعبي بالضرورة، بينما يعادون كل مشروع وطني، وهم النقيض الأساسي لقيم التنوير والتثوير والتغيير. لكن، للأسف، يعتقدون أنهم سينجحون في حصر اليمن واليمنيين داخل ثنائياتهم «الثأراتية» القاتلة، وأن ما نستطيعه فقط هو اختيار أي جحيم نريده من بين الجحيمَين المتاحَين. والحال أن الميليشيات التي دشنت الحرب الأهلية وناورت في الحدود لاستجلاب الخارج هي وحدها التي بإمكانها أن تنهي الحرب بقرار واحد منها. وحينها فقط سنفكر – وبشكل مشترك – بشأن كيفية تجاوز كل هذا الشرخ الإجتماعي الهائل والخراب الإقتصادي والانهيار الأمني وحالة اللادولة. وحينها أيضاً، سنفهم معنى الأولويات التصالحية الوطنية الشجاعة، ومعنى تنمية الذات والجماعات للسلام الداخلي الضامن، الذي لا ينظر للسلام باعتباره مجرد فسحة للمراوغة أو للفهلوة بين حربين. وحينها بالتأكيد سنصيغ معنى آخر ومزدهراً وخلاقاً لعلاقاتنا مع بعضنا كيمنيين.
أما المشهد الأخطر في الحروب الأهلية، فهو حين لا تستطيع الأطراف المتحاربة السيطرة على القوات المسلحة المحسوبة عليها، فتبرز فصائل غوغائية ليس باستطاعتها حسم الحرب، ورغم ذلك هي ضد نوايا السلام، لأنها في حقيقتها ذات قناعات أشد عبثية وفوضوية وحمقاً وتطرفاً من الحرب نفسها، بل وتنبع من يقينيات طائفية ومناطقية أو أيديولوجية راسخة كعقيدة.
فبينما تقتنع كل القوات المتحاربة – على الرغم من اختلافاتها المتعددة طبعاً – بعدم جدوى استمرار الحرب التي أنهكت الجميع، يصر هؤلاء على منزعهم الإنشقاقي، معتبرين السلام عاراً واستسلاماً أو خيانة وكفراً، وذلك لأنهم ينتمون لأوهامهم فقط، وليس إلى معاناة الشعب الذي أثخنته الحرب وتداعياتها وتكلفتها الكارثية على كافة المستويات.